محمد أبو هرجة يكتب: كيلو لحم أسود

الثلاثاء، 22 أغسطس 2017 12:00 ص
محمد أبو هرجة يكتب: كيلو لحم أسود محل لحوم - أرشيفية

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
عندما انتصفت الساعة الثانية عشرة ظهرا وقد تعامدت الشمس على الأرض فى لهيب شهر يونيو الذى جعل الهواء ساخنا لدرجة تشعر أن الجو قد تحول لفرن كبير، وفى هذا الجو الخانق أمام أحد محلات بيع اللحوم بأسعار مخفضة يقف سعيد الذى أكمل عامه الأربعين منذ أيام، ولكن يبدو أكثر من ذلك بكثير بسبب هذه التجاعيد التى ملأت وجهه الذى أخذ اللون الأسمر، ولم يكن كذلك فى الماضى وأيضا رأسه الخالية من الشعر تماما، والتى تعطيه سنا أكبر من سنه بكثير وملابسه القديمة نسبيا، فلا مجال لتجديد الملابس هنا حيث الأعباء الحياتية القاسية التى جعلته يلبس البنطلون لمدة تزيد على العشر سنوات، وكما يطلقون عليه الموظف المطحون فعلا فى حياة لا تعرف الرحمة ولا أى تهاون.
 
وقف سعيد ينتظر دوره فى الشراء وقد قامت الشمس بتحميص الرؤوس مثل الفول السودانى فلا يوجد أى ظل وروائح العرق التى قد تصيبك بالإغماء من فظاعتها، ولكنه تعود عليها بمرور الوقت وهذه الأتربة العالقة بالجو والتى يبدو أنها لا تتحرك كأنها طائرات هليكوبتر وأصوات آلات التنبيه العالية المزعجة المصحوبة بأغانى شعبية هابطة ومكبرات صوت، وكل هذه الضوضاء لا تنتهى سواء كان الطريق متوقفا أو خاليا تماما أصابت المواطنين بالطرش والضغط والضيق، وسعيد الذى لم يعرف طعم السعادة فى حياته تجده دائما مستنكرا اسمه (سعيد) والذى فى بعض الأحيان يعتبره اسم نحس، فهذا الاسم جعل السعادة تهرب منه دائما، ووقف سعيد يلعن الظروف والأيام والتى منعته من السفر عندما كان فى منتصف العشرينيات، ولسبب ما خارج عن إرادته اضطر لقبول الوظيفة الوحيدة التى أتيحت له، وأيضا الزواج مبكرا كما كان يرغب والده الذى توفى بعد زواجه بعام واحد قبل أن تلحق به والدته، وتركوه وحيدا شريدا ويمسك سعيد بورقة المائتى جنيه التى أصبحت لا تكفى متطلباته كما كانت فى السابق.     
 
يمسكها بقوة ويكرمشها داخل قبضة يده وقد تبللت من العرق وكأنه يمسك سجين لا يريد أن يهرب منه، ووقف يتأمل كل هذه الأجواء الخانقة وشعر وهو فى هذا الطابور كأنه فى السجن الذى شعاره السجن تهذيب وتأديب وإصلاح، وكأنه انتقام منه شخصيا يكلم نفسه قائلا أقف هكذا حتى تتورم قدمى من أجل كيلو لحم ماذا لو كنت قد سافرت للخارج لكان الوضع غير الوضع والحال غير الحال، ولكن أقف هنا وسط هؤلاء الأوغاد، وبدأ فى سلسلة من الشتائم النابية بينه وبين نفسه والتى كثيرا ما كان يطلقها على كل ظروفه وأحواله حتى فجأة شعر أن محفظته القديمة المتهالكة بدأت مغادرة جيبه الخلفى، ويبدو أن هناك من يحاول أن يسرق محفظته وبها مرتب الشهر كله، واستدار فجأة ولم يفكر لحظة فأمسك بيد الحرامى وهو يحاول الإفلات بالمحفظة، وقام بإيقاعه على الأرض وقد حاول الناس أن يضربوه معه إلا أنه رفض وتذكر سعيد جيدا دروس الملاكمة التى كان قد تلقاها من كابتن ميمى مدرب الملاكمة، ووجه لكمات ولكمات إلى السارق الذى وقع على الأرض، وكانت اللكمات عنيفة ومتتالية لا تنقطع حتى بدأت الدماء تسيل من وجهه وأخفت ملامحه تماما، وبدأ الناس فى التعاطف مع السارق بعد أن كانوا يريدون أن يضربوه فى البداية بل إنهم صاحوا فى سعيد فى محاولة لإبعاده، ولكن وزن سعيد الثقيل والضخم منعهم واقترح أحدهم الاتصال بالشرطة لينقذوه قبل الموت . 
 
السارق صارخا: إلحقونى هموت هموت اطلبوا الشرطة اطلبوا الشرطة، ولم يجد حيلة من الموت سوى أن يقوم بالتمثيل أنه مات فعلا حتى ينصرف عنه سعيد هذا الطور الهائج، وفعلا قام بذلك وهنا توقف سعيد وسط سخط الناس قائلين له هتموِّت الراجل حرام عليك، وهنا يرد سعيد بعنف حرام على مين هو مين اللى بيسرق مين؟ فسكت الجميع فى لحظة قاتلة.
 
وعندما وقع السارق على الأرض توقف سعيد عن اللكمات، وقام بإخراج منديلا ورقيا من جيبه وبدأ يمسح الدماء التى سالت على وجه السارق فى لحظات من العفو والرحمة لم يكن يتخيلها الحضور وطالبه الناس بالعفو عنه، فقد أخذ حقه أكثر ما كان ممكن أن يعطيه له القضاء وأثناء مسحه لوجه الرجل بدأ السارق يحرك وجهه ويظهر وجهه شيئا فشيئا، وبدأ الذهول على وجه سعيد أنه هو زميله شوكت الذى يتذكر أنه ترك الدراسة للعمل ثم عندما زادت معه الأموال اتجه لإدمان المخدرات بأنواعها وبدأ يمتهن السرقة لتوفير المال اللازم للحصول على المخدرات. وتعرف أيضا شوكت عليه رغم تغير ملامح سعيد كثيرا ولم يتكلم أحد وساد صمت رهيب بينهم فالموقف صعب جدا على سعيد وأصعب على شوكت الذى كاد أن يموت ضربا على يد زميله وفى خجل بالغ وقف شوكت منظفا ملابسه من التراب وممسكا بالمنديل الورقى يمسح به أثار الدماء من وجهه المتورم، حيث بدا مثل الملاكم المنهزم الخارج من حلبة الملاكمة وبدأ بالانصراف و سعيد يقف صامتا وبدا الإحراج على وجهه، وينظر لقبضة يده نادما فلم يتخيل أن تضعه الأيام والظروف فى موقف هكذا .
 
طلب سعيد من شوكت أن ينصرف معه ولم يتناقش معه شوكت وسط استغراب الجميع وأثناء الطريق تحدثا معا عن أيام المدرسة وذكرياتهم التى مضت حتى وصلوا إلى إحدى المقاهى وجلسا، وطلب سعيد من القهوجى شاى وأشار إلى شوكت والذى رد سريعا هنشرب إيه فى اليوم الأسود ده شاى تقيل سادة من غير سكر خالص
سعيد: حرامى يا شوكت دى آخرتها
شوكت: آخر مرة أنت كنت هتخليها فعلا آخر مرة هتبقى نهايتى كنت هندفن النهاردة
سعيد: معرفش عملت كدة إزاى
شوكت: أنا كنت حاسس أنه يوم نحس من أولها حد برضه يسرق فى طابور زى ده اختيار خاطىء تماما فين زمن السرقة الجميل
سعيد ضاحكا وفى المرة الأولى التى يبتسم فيها قائلا ده إحنا واقفين بقالنا ساعة فى عز الحر وانت جاى تسرقنا ده كان هيبقى آخر يوم فى حياتك بتسرق من ناس غلابة الله ينتقم منك .
 
وفى هذه الأثناء جاءت سيارة مسرعة محاطة بالغبار من شدة السرعة وعندما اقتربت تأكدوا أنها سيارة الشرطة اقتحمت منفذ بيع اللحوم والذى لم يكن مرخصا رغم كل اللافتات المكتوبة والتراخيص المزورة، وتم مصادرة جميع اللحوم المعروضة والتى شكَّ فيها الطبيب المرافق أنها لحوم حمير، وتم تحوليها للمعمل لفحصها وانصرف الجميع، وتم القبض على الجزار وكل الموجودين بالمكان وعندما سأل سعيد عن سبب كل هذا التجمهر وعرف السبب ابتسم شوكت قائلا: انت فلوسك حلال يا سعيد .
 
سعيد: أنت ربنا أرسلك لى فى الوقت المناسب يا شوكت
شوكت: وده جزاء الخير اللى عملته فيك ده انا كنت هموت النهاردة 
سعيد ضاحكا: ياااه الدنيا دى عجيبة لو نعرف ترتيب القدر هنعرف أننا بنلف فى دائرة مغلقة لا يمكن الهروب منها و نسير وفق معطيات القدر مجرد عرائس تتحرك على خسبة المسرح الكبير والجمهور هو نفسه البطل 
شوكت: أنا موش فاهم حاجة
سعيد: ولا عمرك هتفهم يا شوكت 









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة