نظافة وذوق ولطافة و"حاجة تغيظ"!.. فرنسا تربح من السياحة أكبر من إيرادات مصر.. والحكومة والشركات الخاصة تجنى 77 مليار دولار من 83 مليون سائح سنويا.. عندما تعرضت باريس للإرهاب تحولت الحوداث لرسائل دعم

الثلاثاء، 06 سبتمبر 2016 02:48 م
نظافة وذوق ولطافة و"حاجة تغيظ"!.. فرنسا تربح من السياحة أكبر من إيرادات مصر.. والحكومة والشركات الخاصة تجنى 77 مليار دولار من 83 مليون سائح سنويا.. عندما تعرضت باريس للإرهاب تحولت الحوداث لرسائل دعم
كتب عبد الرحمن مقلد

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
 

«1»

هل تعلم أن 83 مليون سائح زاروا فرنسا فى العام فى 2015 وتطمح للوصول لمائة مليون سائح فى 2020؟.. هل تعلم أن الإرهاب العنيف الذى ضرب فرنسا فى العام 2016 وخلف ما يقرب من 400 ضحية، «عدد كبير منهم من السياح» لم يؤثر على السياحة فى فرنسا هذا العام إلا بنسبة 4%؟.. هل تعلم أن فرنسا «الدولة» تحقق ما يزيد على 36 مليار دولار من عائدات السياحة دون حساب ما ينفقه السائح فى الشراء والمطاعم والفنادق.. وإلخ؟.. هل تعلم أن فرنسا بقطاعها العام والخاص وشركاتها تربحت 77 مليار دولار عام 2012 من السياحة؟.. هل تعلم أن الذين يزورون متحف اللوفر يتجاوز الـ10 ملايين سنويًا، أى أكثر من متوسط عدد السياح الذين يزورون مصر سنويًا حتى قبل ثورة يناير؟.. هل تعلم أن السياح الذين يزورون المتاحف الباريسية المتخصصة فى الفنون كمتحف أورسيه أو بيكاسو أو مركز جورج بومبيدو للفنون فى شهر، وربما فى يوم، يتجاوزون عدد من يزورن المتحف المصرى فى سنة؟.. هل تعلم أن أكثر من 60% من السياح الذين يزورون فرنسا يقصدون باريس من أجل السياحة الثقافية، وزيارة المتاحف، والتجول فى الميادين، ورؤية مدينة النور بشوارعها ومقاصدها الأشهر فى العالم كبرج إيفل، وقوس النصر، وجسورها البديعة على «السين»؟
 
 

«2»

كل هذه الأرقام الصادمة المأخوذة من مواقع صحفية رسمية وكبرى وإحصاءات عالمية تضعنا أمام الوضع، الذى تعانى منه السياحة المصرية، رغم ما تملكه البلاد من تنوع فريد فى الروافد والمزارات السياحية، وعلى رأسها المقاصد الثقافية، ما يفترض أن يجعلها أولى وجهات السياحة الثقافية فى العالم، وهو للأسف ما لا يحدث.
 
تملك مصر وجهات حضارية هى الأقدم فى العالم والأكثر تنوعًا، على عكس باريس التى تعود أغلب مزاراتها السياحية لعصور النهضة الأوروبية، إلى جانب الأجنحة الخاصة بالحضارات القديمة فى اللوفر والمسلة المصرية فى الكونكورد، إلا أنها تمكنت من صناعة تراث إنسانى خاص ومبدع، وإن لم يكن قديمًا، فيما أهملنا نحن فى تراثنا الفريد، وتركناه عرضة للنهب والتشوه.
 

«3»

تعرضت باريس لحادثين إرهابيين بشعين ضربا وسطها، أسقطا عشرات الضحايا من السياح بين قتلى ومصابين، وكان متوقعًا أن يضربا الموسم السياحى، ويفرضا الرعب على زوار عاصمة النور، ولكن هذا لم يحدث، فلم تهرع الحكومة ولا أجهزة الأمن وترعب القادمين للمدينة، لم يُفزع الإعلام الناس، ويصور بلدًا ضربه حادثان إرهابيان على أنه تحول لأرض الخوف والهلع والخراب.. بالعكس تحول الحادثان لرسالة دعم من السياح لباريس النور مقابل ظلام التخلف والإرهاب.
 
لا تجد أى أثر لخوف ولا دليل على أن هذه المدينة ضربها إرهاب أعنف مما يضرب القاهرة، الأمن والجيش منتشر فى الشوارع والميادين، مدجج بأحدث الأسلحة وأكثرها رعبًا، ولكن لا يشعرك بوجوده، بل تشعر بضرورته كمحافظ على الأمن وليس بث الرعب بين الناس.
بكل بهجة يستسمحك الشرطى وأنت على باب أى متحف أو حتى بلاج السين لينظر فى حقيبتك، بمودة ويرد بابتسامة واثقة، تشعرك بالسعادة، ولا تنغص عليك رحلتك، حتى فى المطار.
 
فى باريس لا داعى للفزع، نعم أنت مراقب دائمًا من خلال الكاميرات المثبتة فى كل مكان، لا من أجل المراقبة فى حد ذاتها، ولكن من أجل الحفاظ على النظام والأمن، وهذا ما يحرص البوليس على إيصاله لك فى كل وقت.
 
 

«4»

لتعرف الفارق فى التعامل فى التراث الإنسانى بيننا وبين فرنسا، ما عليك إلا زيارة المتحف المصرى المحاصر والمغلق على ما به من تراث فريد، وبين اللوفر المفتوح وحوائطه الزجاجية، التى تبرز ما به من نتاج حضارى للإنسانية للمارين.. ما عليك إلا أن تدخل المتحف المصرى لتشهد العرض الكئيب والممل وتقارنه بالجناح المصرى فى اللوفر، والذى يزوره المئات يوميًا.. ما عليك إلا أن تزور المسلة المصرية فى عين شمس، والتى كانت ساحتها مرتعًا للفوضى والحيوانات الهائمة ومتعاطى المخدرات قبل إغلاقها، وبين ميدان الكونكورد، الذى تزينه مسلة شبيهة تجذب أنظار وانبهار السائحين من كل العالم.. ما عليك إلا أن تقارن ميدان سفينكس فى الجيزة بساحة سفينكس قرب الشاتليه وسط باريس، لتعرف الفارق بين قوم آمنوا بالحضارة والرقى، وبين قوم أهملوا ولم يعرفوا قيمة حضارتهم.
 

«5»

باريس وليمة، هكذا عنون الكاتب الأمريكى الأبرز أرنست همنجواى كتابه الرائع «وليمة متنقلة» والذى كتبه عن الفترات التى عاشها فى باريس.
 
باريس وليمة وساحة مفتوحة للفنون والأدب والرقص والموسيقى، فى كل شارع تجد عازفًا أو عازفة أو فرقة رقص أو موسيقى تقدم إبداعها للجمهور.. فى كل ميدان يعرض الرسامون والفنانون لوحاتهم للجمهور بأسعار رخيصة، فى كل مقهى شاعر أو فنان يعرض إبداعه على الرواد، ويضع قبعته ليتلقى عطاياهم. 
 
على شاطئ السين خصصت السلطات الفرنسية ساحة مجانية مفتوحة للرقص أمام الجميع.. فى كل زاوية وشارع جانبى من قلب باريس جاليرى مفتوح للفن، من شاء فليدخل ويرى اللوحات بالمجان ودون أى انزعاج، ومن شاء اشترى ما يتمكن من دفع ثمنه الذى لا يقارن بقيمة ما يحصل عليه.
 
أما فى مصر، فإن السلطات لا تترك فرصة لأى مبدع ليقدم إبداعه فى الشوارع، أُغلقت فاعليات كانت تقدم الفن للجمهور بالمجان مثل «الفن ميدان».. أغلقت المتاحف والأماكن الثقافية على عدد محدود من الكتاب والمبدعين.. فانحسر الفن وبات فئويًا.. وابتعد الشعب عنه. 
 
 
 

«6» 

حدائق باريس ساحات مفتوحة للجمال، ساحة اللوفر بمنحوتاتها الشهيرة، ساحة برج إيفل.. حدائق لوكسمبورغ.. حدائق التويلرى والقائمة تطول.. مفتوحة بالمجان أمام الجميع.. يمارس فيها من يشاء ما يشاء طالما لا يخالف القانون.. يجلس العشاق والعائلات بأطفالهم يتناولون مأكولاتهم ومشروباتهم ويلهون دون إزعاج أو انزعاج.. يسمعون للموسيقى يمارسون حياتهم فى المساحة المتسعة وفى الفضاء الرحب، دون تطفل من أحد أو وصاية أخلاقية.. أما فى مصر فالحدائق مغلقة، وغير آدمية، وأشجارها مهملة وقل عنها ما تشاء.
 

«7»

«نضافة وذوق ولطافة وحاجة تغيض»، هكذا كتب بيرم التونسى وغنى الشيخ سيد درويش عن لندن وباريس، ويهمنا الأخيرة وهى الوجهة السياحية والثقافية الأولى فى العالم، حيث يؤمن الفرنسيون ويدركون أهمية مدينتهم وتفردها، قبل أن تؤمن السلطات بذلك.. يدرك الفرنسيون أن عاصمة النور هى عاصمة الفن والثقافة وحامية التنوع والتجاور والإنسانية، يتيقنون بأن الفن والثقافة والحضارة والرقى يمنحهم مليارات الدولارات سنويا، ومن هذا ينبع رقيهم وتعاملهم بذوق وحمياتهم للطابع التراثى لمدينتهم. 
 
 

«8»

لا تختلف «باكيات» وممرات أسفل العمارت فى شوارع العتبة ومحمد على وكلود بك وأغلب منطقة وسط القاهرة، كثيرًا عن «باكيات» شوارع باريس، وعلى رأسها ريفولى، ولكننا تركناها نهبًا لأصحاب المحال العشوائية.. تركناها نهبًا لعربات الكبدة وأصحاب المتاجر، بينما حافظ الفرنيسون على طابعها وإضاءتها بالكلوبات، لتنتشر فيها جاليرات الفنون والهدايا، لتسير فيها وكأنك تعيش فى باريس فى فترات نهضتها الثقافية والحضارية.
 
تحافظ عاصمة النور على طابعها التراثى، على أبنيتها وعقاراتها.. على الصورة التى أنشئت عليها، لا تتركها نهبًا لكل كاره للجمال ومشوه لها، لا تدع أحدًا يقترب من أى مبنى ليغير من طابعه التراثى، تضع على كل عقار اسم وصورة المهندس الذى صممه وأنشأه.
 
من أعلى مبنى فى باريس «موبنارناس» أو من كنيسة القلب المقدس على مونمارت أو من أعلى برج إيفل من أى جهة، ترى بانوراما باريس، واحدة.. ترى نفس ارتفاع المبانى.. ترى القباب الموحدة.. ترى الأسطح المزينة بالزهور والنظيفة، لتتحسر على القاهرة التى شوهت وخسرت تعددها التراثى، وأصاب القبح مبانيها وطابعها، وحولها إلى مدينة للفوضى.
 
حاولت إحدى السفارات فى باريس، تغيير نمط الباب الخاص بسفارتها، من الخشب إلى المعدن، وهو ما وُجه برفض قاطع وحازم.. حاول المُلَّاك الجدد لأحد المقاهى فى الشانزلزيه تغيير طابع المقهى وتبديل ديكوره وهو ما وجه أيضا برفض، وإجبار على التعهد بعدم المساس بواجهة المقهى المعروف لدى الفرنسيين، هكذا يحافظ المسؤولون على البانورما والطابع الحضارى لبلادهم، فيما نسمح نحن بكل سهولة للعشوائيين ومقاولى القبح بأن يغيبوا مناظر الأهرامات والقلعة، وأن يرتفعوا بأبراجهم لتعلو وتغيب وتغطى على كل جمال. 
 
 

«9»

لا يمكن فى أى بلد فى العالم، أن يكون متحف أو معرض الفنون مكانًا كئيبًا وطاردًا للزوار، إلا فى مصر.. مستحيل أن تتحول معارض الفنون أو قاعات الموسيقى والأدب لسجون أو معسكرات كئيبة إلا لدينا.
 
فى عهد الرئيس الفرنسى الأسبق فرنسوا ميتيران، أقامت فرنسا أكبر مركز للفنون فى العالم يحمل اسم الرئيس الأسبق جورج بومبيدو، صمم المبنى على شكل سفينة للإيهام بأنها تحمل تراث البشرية للنجاة، كما حملت سفينة نوح البشرية سابقا للنجاة.
 
يضم المركز «المتحف» كافة تراث حركات الحداثة فى العالم، ويشمل إحدى أكبر مكتبات الكون، سواء للكتب أو للسينما، وهو ما يقصده الآلاف يوميًا، حيث تقف الطوابير الطويلة فى انتظار فتح المبنى للتمتع بالتراث البشرى.
 
المبهر فى سنتر بومبيدو طرق العرض المشوقة والمثيرة، ليتحول معرض يحوى قصاصات ومسودات وأحذية وكتب وتليفونات قديمة وروبابكيا كالموجودة فى محلات الأدوات المستخدمة لدينا لمكان يؤمه المئات يستمتعون بالمعرض، وينبهرون بالطرق المبتكرة والمبدعة لإتاحة المادة الثقافية.
 
 
 

«10»

هكذا أصبحت الثقافة والفنون فى باريس وسيلة لجنى مليارت الدولارات.. طريقًا مختصرًا للربح الوفير للجميع الحكومة والقطاع الخاص والأشخاص.. هكذا تحولت باريس لمتحف مفتوح تسير فيها الحافلات السياحية من أولها لآخرها دون عائق.. لتضع أمامنا نموذجًا بديعًا ومثالًا على كيف تصبح الثقافة والإبداع والسياحية المعرفية والفنية كنزا ورافدا لا ينضب.. فهل نعيد التفكير فى حالنا مرة أخرى!









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة