د. مجدى عاشور

تجديد التفكير الدينى (14) فقه الثوابت والمتغيرات

السبت، 10 ديسمبر 2016 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
يحتاج كل إنسان فى حياته وشئونه أن يكون له ثوابت تضبط تفكيره وفكره ومنهجه فى العيش والتعامل مع غيره، وتعينه على أداء رسالته كإنسان له روح وعقل وقلب ونفس وجوارح، بحيث تتوازن العلاقة بين عمل كلٍّ من هذه المكوِّنات، ليتسق المرء مع ذاته ويحقق ما فيه سعادته الدنيوية، وعلى أهمية هذه الأسس والثوابت فإنها ليست بالكثيرة أو المتشعبة، وإلا لم تكن حاكمة وضابطة لمنهج الإنسان وسلوكه؛ ولذلك فمن خصائصها القلة والشمول والثبات وإمكان الاستمرار عليها، وهى ما نطلق عليه مفهوم "الثوابت".
 
وعلى العكس من ذلك تأتى تفاصيل حياة الإنسان ووقائعه التى تخضع للواقع الذى يعيش فيه، وهو متغيِّر بطبيعته متحرك فى صيرورته، ومن خصائصه الكثرة والتغير بل والتطور، وبهذا الشكل فهو محكوم عليه من قِبَل مدى التزامه بمنهج الثوابت التى ارتضاها لنفسه واعتقدها بكينونته، وهذا المحكوم عليه هو ما نسميه "المتغيرات".
 
وللتقريب يمكن أن نُشَبِّه الثوابت بالدستور الحاكم على القوانين التى تنظم حركة حياة الإنسان فيما بينه وبين الآخرين، وبالمقابل تأتى المتغيرات والوقائع الجزئية التى قد لا تستمر طويلا كشأن القوانين التى تتغير بتغير الواقع المرتبطة به، وهكذا البشر لا يستطيعون العيش الصحيح المؤدى إلى ما يطمحون إليه من تقدُّم وازدهارٍ وشعورٍ بالسعادة وتحقيقٍ للذات إلا من خلال هاتين المنظومتين: "الثوابت والمتغيرات".
 
وفى مجال (الدِّين) لا يختلف الأمر عنه فى مجال الحياة، فهناك ثوابت لا ينبغى الانفكاك عنها أو عدم الالتزام بها، ومتغيرات طبيعتها التغير وشأنها التقلب، والأولى فيهما – أيضًا – حاكمة على الثانية، وبمعنًى آخر فإن الثانية تدور فى فلك الأولى ولا تخرج عن إطارها، ويمكن تشبيههما بما ورد فى قوله تعالى : (هُوَ الَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) [ آل عمران : 6] ، والتشبيه هنا من حيث إننا لا نفهم المتغيرات إلا من خلال الثوابت ، كما لا يخرج الإنسان بفهمه للمتشابهات عن الآيات المحكمات ، وهذا ما يضمن الصحة فى الفهم والسلامة فى التطبيق .
 
والثوابت فى الإسلام، كغيرها فى حياة أى إنسان سَوَىٍّ، مساحتها صغيرة لكنها واضحة وصريحة، ومسائلها محصورة ولكنها قاطعة وضابطة ، بخلاف المتغيرات التى تشغل حيِّزًا كبيرا، وهى وإن كانت صحيحة إلا أنها غير صريحة فى معنًى واحد؛ بل قد يتعدد الفهم فيها لتعدُّد النظر إليها ، ونصوصها تحتمل ذلك وإن كان فيها الراجح والمرجوح بحسب نظر المجتهد أو المجتهدين على اختلاف مناهجهم فى تناول النصوص.
 
و"ثوابت الدِّين" هى ما ثبتت بدليل قطعى وكان فهمها على وجه واحد لا يحتمل وجها أو معنى آخر، وهى تشمل أصول العقائد دون فروعها؛ إذ هناك مسائل تُدْرَس فى العقيدة وقد اختلفت الأنظار فى المراد منها، ولذلك لا تُعَدُّ من أصول الدين المُجْمَع عليها، ويدخل فى الثوابت كذلك أصول العبادات كأركان الإسلام الخمسة، ومثلها أركان الإيمان الستة، وهى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر، وكذلك حرمة الزنا والربا وشرب الخمر، وأصل مشروعية العقود كالبيوع والنكاح والطلاق دون مسائل كُلٍّ منها، ويدخل فى الثوابت أيضًا منظومة القيم والأخلاق التى يتفق عليها البشر العقلاء ، كالصدق والإخلاص والأمانة والوفاء بالعهود والعدل وأصل المساواة وغير ذلك من الأخلاق التى لا يختلف عليها عاقلان، وجاءت الشرائع السماوية لإقامتها ودعمها ونشرها بين الناس، خاصة فى شريعة الإسلام التى لخَّص رسولنا الكريم رسالته بها فى قوله صلى الله عليه وسلم : "إنما بُعِثْتُ لأتمم مكارمَ الأخلاق" ( رواه أحمد والبخارى فى الأدب المفرد )، وفى رواية عند الإمام مالك رضى الله عنه : "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق".
 
وبحفظ هذه الأصول يقيم الإنسان أصول دينه ودنياه، وبها تتحقق هويته وتتميز سمات شخصيته، بما يُسّمَّى اليوم بـ(النموذج المعرفى)، الذى يختلف من عقيدة أو أيديولوجية أو فلسفة لأخرى .
 
وبهذه الثوابت يحافظ المسلم على المقاصد الكلية العليا التى جاءت الشرائع لحفظها، وهى حفظ الدين والنفس والعقل وكرامة الإنسان ومِلْكِه، وفى ذلك ضمان لحصول مصلحته وجلب سعادته، ليس له وحده بل ولمجتمعه ولكل من يعيش معه فى هذا الكون . وبها أيضا يتحقق مراد الله من خلقه وهو: عبادة الله وعمارة الكون وتزكية النفس .
 
أما "المتغيرات" فى الدين فهى كل ما لم يأت فيه دليل قاطع، بمعنى أنه يحتمل أكثر من معنًى ولو كان أحدهم أرجح من الباقى، فتظل المعانى كلها ظنية، ومن خصائص ذلك أن للمرء أن يعمل بما يفتيه به أهل الاختصاص، ولو اختلفوا فى الحكم أخذ بما ينشرح له صدره وتطمئن به نفسه، ودليل هذا ما قاله النبى صلى الله عليه وسلم للصحابة لما رجع من الأحزاب: "لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِى بَنِى قُرَيْظَةَ، فَأَدْرَكَ بَعْضَهَمُ الْعَصرُ فِى الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لا نُصَلِّى حَتَّى نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصَلِّى لَمْ يُرِدْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَّا ذَلِكَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا مِنْهُمْ"(رواه البخارى ومسلم). قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: "قال السهيلى وغيره : فى هذا الحديث من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث أو آية، ولا على من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أن كل مختلفين فى الفروع من المجتهدين مصيب" (فتح البارى بشرح صحيح البخارى).
 
وأكثر الشريعة من هذا النوع، وهو يشمل  مئات الآلاف من فروع العبادات من طهارة وصلاة وصيام وحج، وكذلك ما يخص المعاملات من حيث الإجراءات والكيفيات التى لم يأت فيها نصوص قطعية، خاصة وقد يدخلها التغيير من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان، ككثير من صور المعاملات الحديثة، فى الاقتصاد والطب والسياسة والفنون وما قد يتعلق بالعادات والأعراف .
 
وشأن هذه المتغيرات الواسعة ألَّا يُضَيَّق على الناس فيها، بمعنى أن الأصل فيها المرونة ما دام استنباطها بمنهج علمى صحيح وعلى أيدى المتخصصين من علماء الشريعة ومن يساعدهم من أصحاب العلوم الأخرى، وهى بهذا المعنى مظهر عظيم من مظاهر الرحمة فى شريعة الإسلام، ودلالة قاطعة أنه يصلح لكل زمان ومكان بتلك المرونة وهذه السَّعة .
 
إن عدم اعتبار الفرق بين الثوابت والمتغيرات أو عدم إدراك مساحة كلٍّ منهما فى الشرع، ينتج فريقين متطرفين متضادين، أحدهما لا يعترف بثوابت ويرى كل شىء قابلًا للتغيير ولو كان فى الاعتقاد والمبادئ ومنظومة الأخلاق والقِيَم، والثانى يُضَيِّق على الناس دينهم ودنياهم بإدراج جُلِّ ما ورد فى الشرع تحت الثوابت، ومن ثَمَّ فمن خالفها فهو آثم أو فاسق أو مبتدع ، وقد يكفِّره بعضهم ويستحل دمه ، وهذا شيء من الواقع الذى يكتوى العالَمُ بناره الآن، بين أناس لا يريدون دِينًا يُرَسِّخ القيم ويحافظ عليها، وآخرين يُنَفِّرون البشر من الدِّين ومن مُرْسِلِه وهو الله تعالى ومن المُرْسَل به وهو الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلاهما على خطر عظيم، على نفسه قبل أن يكون على بنى جنسه، ورُمَّانة ذلك كله مَن يقفون على الطريق الوسط ويعتبرون بالمنهج الأحمد، طريق العلماء ومنهج الرحماء وسبيل ذوى البصائر، الذين قال الله عز وجل فيهم: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) "يوسف:108".









مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة