محمد جاد الله

فريضة بناء السلام المجتمعى "التائهة" (١)

الإثنين، 27 مايو 2013 12:30 ص

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
على مدار عامين أثبتت كل تجارب الصراع التى عايشتها فى المجتمع المصرى، أن منظومة بناء السلام داخل نسيج المجتمع يخضع لقاعدة التسويف، وذلك لمعاناة مجتمعنا من قصور فى التصور عن آليات وضوابط الحلول المثمرة فى هذا الشأن.
والدليل على ذلك أن الحديث عن ضرورة اللجوء إلى الحلول العلمية المتكاملة فى حل المنازعات، ما زال يُستقبل فى المجتمع وكأنه نوع من الخيال العلمى أو محاولة للنفخ فى "قربة مقطوعة".
وحتى ننجح فى نشر تلك الثقافة بالوسائل السليمة علمياً، فلن ينجح لنا حوار، ولن يفلح فى فض النزاعات وسيط، وسيبقى بناء السلام فريضة "تائهة"، بين قلوب أدمنت التعميم فى إسقاط كل خطأ على الآخر.
وبعيداً عن التنظير، ورمانسية الحالمين، أحكى لكم عن تجربة واقعية ناجحة فى أصلاح الصراع، شاركت فى نسج خيوطها قبل أربع سنوات فى مدينة سالزبورج النمساوية، وما زالت مشاهدها تمدنى بالأمل فى مستقبل أفضل لأجيال مصر الشابة.
..
تقطن سالزبورج وضواحيها أقلية مسلمة عريقة أغلبها من الأتراك البسطاء، ممن استقدم آباءهم وأجدادهم من مناطق جبلية فى جنوب تركيا، للمساهمة فى إعادة بناء ما دمرته الحرب العالمية الثانية هناك.
وهم يعيشون الآن فى النمسا كمواطنين ومواطنات فى دولة ذات بنية قانونية ومجتمعية مستقرة، لهم مثل غيرهم جميع الحقوق وعليهم جميع واجبات المواطنة.
..
ذات يوم فى شتاء عام ٢٠٠٩، اتصل مدير هيئة الصليب الأحمر الدولية فى سالزبورج بمقر المؤسسة التى كنت أديرها، والتى تخصص فريق العمل بها آنذاك فى بناء السلام المجتمعى من خلال منظومة تعنى فى المقام الأول بضبط التناغم المجتمعى بين الأقلية المسلمة، وبين فصائل المجتمع المختلفة.
جاءنى صوته قائلاً:
قبل سنوات تقابلنا فى سلسلة محاضراتك التى استهدفت أطقم الأطباء والتمريض بالهيئة، والتى كانت تحت عنوان"عن المريض وابتلاء المرض فى المنظور الإسلامى".

واستوعبنا آنذاك أن معرفة الآخر الدينى تثرى أبعاد الرسالة الإنسانية النبيلة لهيئتنا، فالأمر يصبح أكثر أنسانية عندما نفهم ما الذى يدور فى رأس ووجدان هذا الآخر، من خلال خلفياته الدينية والثقافية، خاصة إذا كان الآخر فى حالة ضعف المرض أو حتى على فراش الموت.
ولأننا تفوقفنا عملياً، فنحن نسعى للتفوق إنسانياً أيضاً.
والآن نحن نواجه حالة توتر مجتمعى مكتوم بين أطقم الإسعاف، وهم كما تعرف من المتطوعين الذين يتبرعوا بعدد ساعات أسبوعية دون أجر فى خدمة المجتمع، وبين أسر الجالية التركية المسلمة، ولا يتسع لها الحديث فى الهاتف، فهل يمكن أن نتناول القهوة فى مكتبك خلال ساعة؟
..
ونحن نرتشف القهوة سوياً، حكى لى أن هناك تذمراً شديداً بين أطقم الأسعاف فى مدينة سالزبورج وبين الإدارة بسبب تصرفات "غير معقولة" لعدد كبير من الأسر التركية التى تلجأ لطلب رقم الإسعاف فى حالات طوارئ ألمت بأحدى نساء الأسرة، وعندما يصل المسعفون يرفض رجال المنزل أن يلمس أحد منهم المرأة المصابة أو المريضة، وفى حالات أخرى لم يسمحوا لطاقم المسعفين بالدخول إلى المنزل.
قلت له: بالطبع يبدو الأمر كسيناريو هزلى بالنسبة لطواقم المسعفين، لأنهم يلتزمون ببروتوكولات عمل صارمة تحسب بالدقائق، ولا خطط بديلة فيها لمفاجآت من هذا النوع.

هز رأسه مُؤمناً واستكمل قائلاً: الموقف يتطور للأسوأ، فقد بدأ بعض المسعفين فعلياً فى الانسحاب من العمل التطوعى، مما سوف يؤدى لارتباك غير مسبوق فى خدمات الإسعاف بالمدينة، كما بدأ الإعلام المحلى فى تناول الخبر، بالتزامن مع إعادة تدوير كلمات رجب طيب أردوجان الشهيرة التى قالها فى أحد لقاءاته عام ١٩٩٧ قبل أن يتولى رئاسة الوزراء فى تركيا بسنين.
فقاطعته مردداً جملة أردوغان الشهيرة: "القباب خوذاتنا، المآذن سيوفنا، والمؤمنون جيشنا"..
ألا يجد الإعلام فى جعبته جملة أخرى بدلاً من تلك الجملة بلاغية المنطق، التى تستهلك إعلامياً حسب الطلب لنشر ثقافة الخوف من الآخر، ورفع درجة الاحتقان المجتمعى؟
أومأ برأسه مؤكداً ثم قال: هكذا الإعلام يا عزيزى..
ونظراً للتصعيد السياسى المتوقع، فنحن نتوقع الأمر قد يتطور إلى أزمة سياسية بين فيينا وأنقرة بناء على سرعة تطور الأحداث، ومن ثم فقد خاطبنا رسمياً القنصلية التركية فى المدينة بشأن الأزمة، فلم يصلنا منهم للأسف غير رد دبلوماسى أنيق.
وبما أن فريق العمل فى مؤسستكم يحظى بمصداقية عند أطراف النزاع، فأعتقد أنكم يمكن أن تساعدونا بالتدخل بحزمة حلول متكاملة للأزمة قبل أن يتفاقم الأمر أكثر من ذلك.. فماذا تحتاجون من جهة الصليب الأحمر حال قبولكم؟

قلت له بعد دقائق من التفكير:
لا أستطيع اتخاذ قرار فردى، ولكننا بأى حال سنتبع خطوات دليل العمل الخاص بنا: سنحتاج لخطاب تفويض من هيئتكم الموقرة لمؤسستنا بالوساطة فى حل النزاع المذكور، يبرز دعمكم لإعداد الخطة الاستراتيجية اللازمة، إضافة إلى كل المستندات الموثقة المتوفرة عن الحالة، وبخاصة المواقف التى تعرض لها المتطوعون، مسجل فيها توقيت الزيارات وعناوين الحالات الرافضة..
كما نحتاج أيضا لدليل الإرشادات الرسمى للهيئة الذى يشرح بروتوكول عمل الأطباء والفريق المصاحب لهم فى حالتى الإسعاف الطائر والبرى، كى يستطيع فريقى إجراء عصف ذهنى على أساس موضوعى.
..
بعد أن ودعته، وقفت فى النافذة أراقب تساقط الثلوج الكثيف فى يوم من أيام شتاء يناير القاسية، وأنا أقول لنفسى:
كل أطراف هذا الصراع تحتاج للمساعدة.. فلا غالب فيه ولا مغلوب.. يا ترى "القِربة" تلك المرة سليمة أم مقطوعة؟
..هذا ما سوف نعرفه فى المقالات القادمة إن شاء الله.








مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة