محمد بركة

مرثية لثائر قديم

الأحد، 10 فبراير 2013 09:51 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
كنت أتصور أن الإثارة التى تسبق عادة رحلة السفر الأولى خارج الحدود ستمنعنى من النوم، خصوصاً أن موعد الطائرة يتطلب الاستيقاظ الثالثة فجراً، لكنى كنت واهماً. التعب بلغ منى منتهاه، فسقطت فى النوم مثل حجر، بعد نهار حافل قضيته فى اللف على أصدقائى من «أصحاب السوابق» الخارجية. الكل يريد أن يعمل معى واجباً فيلزمنى بضرورة لقائه منفرداً ليتلو علىَّ وصاياه العشر. وفى كل بيت أو مقهى لا تخرج الوصايا فى مجملها عن ضرورة أن أرفع رأس العرب، وأُرى حريم أمريكا ما لا عين أنثوية رأته فى سوق الرجولة.
اللقاء الوحيد الذى كان يعنينى اقتضى منى اختراق مجاهل «الصين الشعبية».. هناك فى عمق «بولاق الدكرور» من ناحية «ناهيا» حيث التقط الخيال الشعبى هذا الاسم ليطلقه على أشهر أحياء القاهرة زحاماً وتلوثاً وفوضى.

ولكن من أجل «جو» «ينسقى العُليق»!
«جو» هو كبيرنا الذى علمنا السحر، ولا أستطيع أن أقوم بهذه الرحلة دون أن أمُر عليه، ليس «لكى نأخذ البركة» كما نمزح معه دائماً، إنما بسبب إحساس دفين بالذنب يكنه معظم أفراد الشلة تجاهه. يكبرنا بعشر سنوات على الأكثر، إلا أن مظهره يعطيه عشراً إضافية، ونحن القادمين من الريف والنجوع تربينا على مكتبته، بل سطونا على نصفها، وهو القاهرى كان بوابتنا إلى العاصمة، ودليلنا إلى أسرارها وعالمها الليلى، نبيت عنده بالأسابيع، فلا يتذمر، نستلف سجائره فلا يشكو، وندهش لثقافته الموسوعية، وتجاربه المذهلة، ونقول «آدى اليساريين ولا بلاش». هو الذى عاش فى بيروت أيام الحرب الأهلية، وترقى إلى رتبة «مقدم» فى خلية عسكرية. نعجب متى ينام، فعيناه حمراوان، دائماً حمراوان، لا يحلق ذقنه، ولا يكف عن تدخين الشيشة، ويحيط علاقته بالمرأة بستار كتب عليه «ممنوع الاقتراب أو التصوير»، يكره الأكل كراهية العمى، وإذا ازدرد بعض لقيمات، فإنما يفعل ذلك لكى لا يكون التدخين على معدة خاوية، لا يطيق الخروج أو الاستحمام، لا يحمل للفلوس هماً، فهى تأتيه بانتظام من البلد بسبب قطعة أرض كبيرة ورثها عن أبيه الذى كان أحد الأعيان. السلم طويل يلتف حلزونياً بزوايا حادة مقلقة، والدرابزين لا يبدو أهلاً للثقة، والدرجات غير سميكة، والشقة أو «وكر الحرية» تقع فوق السطوح، ويوسف كالعادة فى منزله بين النوم واليقظة، يقطَّع الفحم على رخامة المطبخ، ويرصه على نار الشعلة فى البوتاجاز، ويمضى متكاسلاً إلى حيث الحمام لتغيير ماء الشيشة، وفى النهاية، وبينما وهو يحتسى شاياً ثقيلاً،ويسحب أنفاساً معطرة بالنشوة يفتح الله عليه وهو يتلو علىَّ نبوءته قائلاً: المدينة التى ستعجبك هى D.C، إنهما الحرفان اللذان يختصران عبارة District of Colombia.. أنت تتصور أن دمها سيكون ثقيلاً على قلبك باعتبارها «العاصمة السياسية» لأمريكا، ولكن هذه المدينة الصغيرة المحندقة ستكون خلاصة ما تطلع به من رحلتك. ويسحب يوسف نفساً طويلاً ثم يخرج عاصفة دخانية من منخاريه وفِيه.. يتابع: اسمع.. أما إذا أردت نصيحتى، فهذه سلسلة مقاهى «ستاربكس» الشهيرة، ادخلها صباحاً والشمس تفرش الشوارع الواسعة برداء من المودة، واطلب قهوة مع عبوة لبن أيرلندى، وشاهد الخلق وهم يسيرون على الرصيف أمامك، يمسكون الحبل بيد، ويمسكون الصحيفة باليد الأخرى، ويتمشون فى نشاط وحيوية.

سألته: أى حبل؟
قال: ليس شرطاً أن يكون حبلاً.. ربما تكون سلسلة.
قلت: أى سلسلة؟
قال: سلسلة تنتهى بطوق حول رقبة كلب من فصيلة ألمانية.
وضحك دون سبب، ثم سعل بشدة، فكشف عن أسنان فلجاء سوداء، ونابين بدا كأنهما منحوتان بمبرد.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة