هشام الجخ

سجل مدنى «أبوتشت»

الأربعاء، 20 نوفمبر 2013 09:04 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
فى عام 2003 تخرجتُ فى جامعة عين شمس.. وعقب التخرج بدأتْ رحلتى الطبيعية لتحديد موقفى من التجنيد.. كانت الرحلة طويلة وبها الكثير من التفاصيل.. سأتوقف عند أهم المحطات التى يمكن استنباط قضية عامة من خلالها. أبى تزوج ثلاث نساء، وأنجب اثنين وثلاثين ولداً.. عاش منهم سبعة عشر فقط.. وبالتالى فقد استخرجت 32 شهادة ميلاد و15 شهادة وفاة فى رحلتى لاستخراج القيد العائلى الخاص بى لاستيفاء أوراق التجنيد. والداتى لم يكنّ جميعا من نفس المحافظة.. كانت أمى الأولى من محافظة قنا – مركز أبو تشت.. أما أمى الحقيقية التى ولدتنى – رحمها الله – فقد كانت من سوهاج.. وأمى الثالثة كانت من محافظة الغربية.. ولهذا فقد استخرجت شهادات الميلاد والوفاة لإخوتى من محافظات عديدة واستغرق الأمر فترة طويلة لاستكمال أوراقى.

سأتوقف فى سجل مدنى «أبو تشت» وهو أول مراكز محافظة قنا، ومسقط رأس والدى. كان مبنى السجل المدنى مزدحما جدا، وموظفو السجل المدنى يتعاملون مع المواطنين من خلال شبابيك عالية، بحيث يصعب على المواطنين الوصول إلى الموظفين للاستفسار الكامل عن الإجراءات التى يجب اتباعها لاستخراج أوراقهم المطلوبة.. كان المشهد يوحى بالتعالى والنظرة الدونية التى تنظر بها الدولة للمواطنين.. ومثلى مثل أى مواطن مصرى أول ما يطرأ على ذهنه عندما يواجه زحاما فى المصالح الحكومية، أن يتصل بأحد أقاربه أُولِى السلطة والنفوذ لتسهيل مهمته من خلال علاقاته بأحد الموظفين بالمصلحة.. اتصلت بأحد أقاربى ذوى العلاقات الواسعة للحصول على توصية خاصة، تسمح لى بتجاوز الطوابير والزحام.. وبالفعل فى خلال ربع ساعة كنتُ أجلس فى مكتب الموظف المسؤول بعيدا عن زحام الشباك..

فى مكتب الموظف لم أستطع أن أنفصل عن مبادئى، فعاتبتُ الموظف عتابا مهذبا – بقدر المستطاع – للطريقة التى يعاملون بها المواطنين.

سألتُه بشكل مباشر: لماذا تتعاملون مع الناس من خلال شبابيك عالية ومرتفعة، يصل ارتفاعها إلى المترين أو يزيد؟ أجابنى بهدوء : إن المواطنين هنا (يقصد فى أبى تشت) لا يصطفون فى طوابير منتظمة، وإنما يتدافعون على الشباك بأجسادهم مما يعيق تنفس الموظف الذى يقف على الشباك، لو أن الشباك كان فى مستوى المواطنين. كان رده مستفزا، ولكن ربما فيه شىء من الحقيقة. سألته مرة أخرى: لماذا يعامل الموظفون المواطنين بتعالٍ وكبرياء ولا يجيبون على كل أسئلتهم؟ قال لى: (يا أستاذ هشام تعال اقعد معانا ساعتين وانت تفهم). ثم سحبنى من يدى وأجلسنى بجواره على الشباك، لأتمكن من مشاهدة نموذج ومثال حى للتعامل مع الجمهور. كانت امرأة بسيطة وريفية فى الأربعينيات من عمرها.. قال لها الموظف: (هاتى صورة البطاقة بتاعت أبوكى يا ست).. فقالت له ببراءة: أبويا مين ؟ نظر الموظف لى ساخرا ولسان حاله يقول : صدقتنى؟ ثم نظر لها غاضبا وقال: (أبوكى يا ست..

أبوكى.. ليكى كام أب؟) فقالت له وعلى وجهها أقصى علامات الاستنكار: (أبويا محمد ولا أبويا عبد الجليل ولا أبويا مين؟).. كانت تقصد بأبيها هنا أباها وعمها وحماها وعمدة بلدها وكل كبار البلد، فالدارج فى قرى الصعيد أن يقال على كل هؤلاء (أبويا فلان). هنا فقط فهمتُ أن المشكلة فى فساد موظفى الحكومة ليس الحكومة فقط، وإنما ثقافة ومستوى التعليم لدى الأفراد أنفسهم.. وأدركتُ أن الطريق يحتاج لوقت طويل لكى يكتمل.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة