هشام الجخ

«كل سنة وإنت طيب يا باشا»

الإثنين، 07 يناير 2013 05:28 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
«كل سنة وإنت طيب يا باشا» هى الاسم الحركى لطلب «الإكرامية» والإكرامية بالطبع هو اللفظ المهذب لكلمة «رشوة».

الرشوة سلوك منحرف ومجرّم قانونا ومحرّم فى كل الأديان السماوية.. يتفشى هذا السلوك بقوة فى المجتمعات المتخلفة التى لا تعرف العدالة ولا تساوى فى الحقوق ولا تكفل لموظفيها الأجر المناسب والحياة الكريمة ليعفّ يده عن الرشوة.

الحديث عن الرشوة بشكل عاطفى ومعاتبة المرتشى والقسوة عليه واعتباره شخصا غير خلوق ومخالفا لتعاليم الدين والأخلاق وما شابه كل هذا من الحديث البلاغى والأنيق لا يحل المشكلة..

أنا لا أنكر ضرورة القيم والأخلاق وتعاليم الدين الحنيف التى تنهى الناس عن الرشى وتعتبرهم من العصاة والفاسقين، ولكن بجانب هذه التعاليم الروحانية أردتُ أن أقف على حلول عملية دنيوية لظاهرة الرشاوى التى انتشرت وطغت فى المجتمع المصرى حتى قاربت أن تكون عادةً وملمحاً وسلوكاً مصريا صميما وجزءًا من إجراءات استخراج الوثائق فى المصالح الحكومية المصرية.

اسمحوا لى أن أتجرّد -مؤقتا- من دوافعى الأخلاقية الخاصة وأناقش الظاهرة بشكل علمى بحت، كما يفعل الغرب، ثم نعاود سريعا لأخلاقنا الشرقية ونكمل الموضوع.
ظاهرة الرشوة لها طرفان رئيسيان.. «الراشى والمرتشى».
إذن لماذا يحاول الراشى أن يدفع الرشوة «أو يُجبر على دفعها»؟
ولماذا يقبل المرتشى أن يأخذ الرشوة «أو يطلبها ويفرضها»؟

الراشى طرف له مسألة أو «مصلحة» فى جهة حكومية ما.. هذه الجهة تكتظ بالأطراف الأخرى الذين لهم نفس المصلحة ويريدون قضاء مصالحهم فى عجالة تتناسب مع احتياجاتهم.. بينما يعجز الجهاز الإدارى الحكومى فى الجهة المنوط بها إتمام هذه «المصلحة» من تلبية رغبات كل هذه الأطراف بالسرعة التى ترضيهم.. وهنا يكون لزاما على الأطراف «المواطنين» أن يجدوا بديلا سريعا لكسر حاجز البطء فى الجهاز الإدارى الحكومى والهروب من بيروقراطية ورتابة وتخلف الإجراءات الحكومية بشأن استخراج الأوراق والمسوغات الحكومية.

هنا يظهر دور الرشوة فى تخطى الأدوار وتسريع إيقاع الإجراءات وكسب الوقت على حساب الأطراف الأخرى «المواطنين» الذين عجزوا أو رفضوا دفع الرشوة.

والراشى هنا يدفع رشوته على مضض.. ولكنه لا يعتبر نفسه آثما أو مذنبا وإنما يعتبر نفسه ضحية قوانين غبية وجاهلة وتعليمات مملة وسمجة.. وأن هذه التعليمات والإجراءات هى التى اضطرته لدفع الرشوة كمحاولة بريئة منه لتسيير عمله وإنجاز «مصلحته» بالسرعة التى تلزم لقضاء حاجاته، وأى شخص يحاول مناقشة هذا الراشى أو معاتبته أو نصحه سيقابله الأخير بالسب واللعن وإلقاء اللوم على الحكومة والموظفين والإجراءات وعدم الضمير..... إلخ.

ونظرا للقوانين المصرية «الغريبة» التى تمعن فى عرقلة مصالح الناس فقد صارت بالتدريج مسألة هروب الناس من تعقيد الإجراءات موقفا طبيعيا معتادا على كل الأصعدة.. وبالتالى أصبح الشخص «الراشى» شخصا طبيعيا لا يلفت الانتباه ولا يدفع رشوته فى الخفاء ولا يشعر بالوزر ولا بالخجل ولا يستتر أثناء دفع الرشوة.

الطرف الثانى هو «المرتشى» وهو موظف وضعت الدولة بين يديه صلاحيات لإتمام مصالح الناس.. ومع مزاولة عمله المستمر بدأ يشعر بزيادة الطلب على منتجه الخدمى الذى يقدمه للناس.. وبدأ يشعر بضرورة ما يقدمه بشكل يفوق الأجر الذى يحصل عليه.. وشعر أن المواطنين «أصحاب المصالح» يتهافتون ويتدافعون عليه لإتمام مصلحة ما، لا يمكن لغيره أن يتمها فظهرت عنده فكرة العرض والطلب واستغلال هذا التهافت وهذا الاحتياج لمصلحته الخاصة ولزيادة أجره.

ولما كان أجره ثابتا وزهيدا ولا يمكن مطالبة الحكومة بهذه الزيادة المرجوة بدأ يطالب المحتاجين والمتلهفين من أصحاب المصالح «المواطنين» بهذه الزيادة.. ويكفى جدا أن يرتشى موظف واحد لتعمل الغيرةُ الإنسانيةُ عملَها فى بقية الموظفين ويصير الأمر جزءا من «بروتوكول» العمل فى هذه المصلحة الحكومية.

طبعا هناك من الشرفاء العديد وهم بخير مادامت الدنيا بخير.. ولكنهم فى ظل الحكومات الضعيفة والسياسات الخاطئة يظل صوتهم ضعيفا وعددهم قليلا.

إذن فالرشوة لها أسبابها ودوافعها التى تخص كل طرف على حدة.. وبعيدا عن الخطب الرنانة والمواعظ التى تلهب المشاعر هناك حلول عملية وآليات يمكن الوقوف عليها واتباعها لمنع الرشاوى من القطاع الحكومى.. سواء للراشى من خلال تذليل الإجراءات وتبسيط طرق الحصول على ما يريد.. أو فيما يخص المرتشى من خلال رفع الأجور وتغليظ العقوبة على المرتشى وتبسيط وسائل البلاغات عن هذه الجريمة.

إذا صارت الحكومة فى هذه المسارات بجدية وحزم فسيتم القضاء على الرشوة -والتى هى آفة القطاع الحكومى المصرى- وسينتهى عصر الجملة الشهيرة «كل سنة وإنت طيب يا باشا» وسيحصل كل ذى حق على حقه فى توقيت مناسب بدون الجور على حق غيره بشرط أن تكون آليات تنفيذ الإجراءات والعقوبات الخاصة بموضوع الرشوة عقوبات صارمة وغليظة ولا يخلو الأمر من بعض النشاط فى وسائل الإعلام وعلى منابر المساجد والكنائس لتوعية الناس بأهمية وخطورة الرشوة فى المجتمعات التى تتطلع لحياة كريمة.

لقد نادت ثورة 25 يناير أول ما نادت بالعدالة.. والعدالة معنى لا يجتمع مع الرشوة فى وعاء واحد.. لأن الرشوة باختصار هى أن يدفع شخصٌ ما مبلغاً ما ليهدم العدالة ويحصل على حق ليس له.








مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة