ياسر أيوب

قلنا هانبنى.. وآدى إحنا بنينا الساحل الشمالى

الخميس، 23 يوليو 2009 10:03 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
◄ إذا كانت جريدة النيويورك تايمز منذ سنوات قالت إن هذا الساحل الشمالى هو أغرب وأعجب وسيلة اختارها المصريون لإهدار أموالهم.. فقد ثبت أن الصحيفة الأمريكية الشهيرة والعريقة لم تكن تبالغ أو تتجنى وتتآمر علينا

لا يزال الساحل الشمالى ثعباناً يفتح فمه الواسع ليبتلع كل نهار المزيد من أموالنا وثرواتنا وأحلامنا وقدرتنا على التغيير والتنمية.. فالساحل الشمالى أصبح هو المشروع القومى الحقيقى فى مصر منذ أكثر من عشرين عاما.. فالاهتمام الحكومى بمصر كلها لا يمكن مقارنته بالاهتمام بهذا الساحل.. فهذا الساحل.. حكوميا وسياسيا وإعلاميا.. بات أهم وأشد حساسية من الصعيد بأسره ومن كل مدن الدلتا وقراها.

(1) الساحل الشمالى
لا الطفل الصغير الذى يلهو فى أحد حمامات السباحة هناك.. ولا الرجل الذى يستعذب طعم فنجان قهوته وهو جالس على البحر.. ولا الفتاة التى يرضى غرورها أن تكون على الشاطئ الأجمل والأكثر حضورا وإثارة.. ولا الأولاد والبنات المهمومون بالبحث عن الحب والفرحة والبهجة.. ولا المرأة التى تسعى طول الوقت لأن تجمع أقاربها أو أصدقاءها على مائدة غداء أو عشاء.. لا أحد من هؤلاء يعرف الثمن الحقيقى الذى دفعه الوطن ليبنى هذا الساحل الشمالى الممتد من الكيلو الرابع والثلاثين غرب الإسكندرية إلى مدينة العلمين وبعدها حتى حدود مدينة مرسى مطروح.. لا أحد منهم يعرف.. أو على استعداد لأن يعرف.. أنه من أجل تلك الوجاهة الاجتماعية وهذه المتعة العابرة.. استنزف هذا الوطن مليارات كثيرة من موارده الشحيحة ليبنى الفيلات والشاليهات وحمامات السباحة على هذا الشريط الطويل الممتد بمحاذاة ساحل البحر.. ويفصل البحر عن الفقر والهموم ووجع الأيام والصحراء والبدو ومذلة السؤال.

وإذا كانت جريدة النيويورك تايمز.. منذ سنوات.. قالت إن هذا الساحل الشمالى هو أغرب وأعجب وسيلة اختارها المصريون لإهدار أموالهم.. فقد ثبت أن الصحيفة الأمريكية الشهيرة والعريقة لم تكن تبالغ أو تتجنى وتتآمر علينا.. وثبت أن روايتها كانت صحيحة ودقيقة.. وحزينة أيضا.. فلم يكن ما بنيناه هناك استثمارا للمستقبل سنجنى فيما بعد عوائده وأرباحه وفوائده.. ولا كان خطوة نخطوها لنقنع الأجانب والغرباء بأن يأتوا بأموالهم إلى بلادنا ويستمتعوا بسحرها وبرها وبحرها وجوها.. وإنما رمينا كل هذه المليارات من أرصدتنا لمجرد الموضة والهوى وإرضاء نزوات أصحاب المال وأصحاب النفوذ وأصحاب الشهرة.. والدليل هو ما جرى فى قرية مراقيا التى كانت أول قرية نبنيها فى الساحل الشمالى.. فقد بدأ التفكير فى تلك القرية أصلاً بعد أن قدم الرئيس السادات رؤيته لمصر ومستقبلها عام 1976 واختار أن يصيغ رؤيته فى ورقة أسماها ورقة أكتوبر.. وفى تلك الورقة كانت هناك توصية بوضع تصور لتعمير الساحل الشمالى لمصر من الكيلو 34 غرب الإسكندرية وحتى الكيلو 100 عند مدينة العلمين.. يومها كان المهندس حسب الله الكفراوى وزيراً للتعمير.. وكانت الوزارة نفسها لا تزال جديدة وطازجة.. وحائرة أيضاً.. وزارة ولدت أصلاً لتعمير مدن قناة السويس بعد حرب أكتوبر.. وبعد تعمير المدن الثلاث وابتعاد أول وزير لها.. عثمان أحمد عثمان.. بدأ البحث عن أهداف استراتيجية تنشغل أو تقوم بها الوزارة وتصلح مبرراً لوجودها وبقائها.. فكان أن تلقفت الوزارة ما جاء فى ورقة السادات بخصوص تنمية الساحل الشمالى الغربى.. وبدأ بالفعل التخطيط لهذه التنمية.. وتولى مكتب استشارى أمريكى - بمشاركة عدد من الخبراء المصريين ومكتب هولندى متخصص ويملك الشهرة والخبرة - وضع جميع التصورات والرؤى المطلوبة لتنمية هذا الساحل.. كان الهدف البعيد.. والواضح والوحيد أيضا.. هو استثمار هذا الساحل بشواطئه ورماله البكر فى إقامة تجمعات سياحية عالمية عملاقة على غرار السواحل الإسبانية والفرنسية والإيطالية المطلة على نفس البحر ونفس الماء ولكن ليس بنفس نعومة رمال الجنوب ودفء شمسه الجميلة والرائعة.. كما كان مخططا أيضاً إقامة مناطق زراعية ومجتمعات إنتاجية يتحول فيها البدو إلى قوم منتجين بدلا من الاكتفاء بالرعى أو تهريب المنتجات والسلع من ليبيا وقطع الطريق على قوافل تجار المخدرات.. بالإضافة إلى إنشاء مناطق وتجمعات صناعية تعتمد على الموارد المحلية فى تلك البيئة الصحراوية مع تطوير حقيقى للمدن القديمة القائمة كمدينة العلمين والحمام.. وإضفاء الحيوية وتوضيح الدور لمدن جديدة مثل برج العرب والعامرية.

وجاء عام 1980.. وبدأ التفكير النهائى فى هذا المشروع وتنفيذ ذلك المخطط وتحقيق كل هذه الأحلام.. وكانت مراقيا هى البداية.. مجرد قرية سياحية سيجرى بناؤها كنموذج للتنمية الدائمة والحقيقية بطول هذا الساحل.. وفى التخطيط المبدئى لمراقيا.. روعى الاحتفاظ بعذرية المكان والحفاظ على طبيعته وملامحه الأصلية والأصيلة.. فتبقى التلال والهضاب وتتحول البرك التى خلفها البحر وراءه إلى بحيرات.. مع بناء البيوت بالحجر الجيرى المتوافر بالمنطقة ليصبح شكل البناء سمة مميزة لكل مشروعات تعمير ساحل الشمال والأحلام.. وبدأ التنفيذ.. وفى نفس الوقت بدأ المهندس حسب الله الكفراوى يتنازل باسمنا جميعا - ولكن دون موافقتنا أو توكيل من أى أحد فينا - عن كل ما كانت تريده الدراسة والرؤى القديمة.. وكل ما كان يريده ويسعى إليه الخبراء الأمريكيون والهولنديون.. فقد بدأ المهندس حسب الله الكفراوى أولاً.. كوزير للتعمير.. بتعديل التصميمات الأساسية والإجمالية ليبنى كبائن على الشاطئ مباشرة ليجرى توزيعها على الكبار والمشاهير وأعضاء مجلس الشعب ومسئولى وزارة التعمير نفسها.. فى البداية كان طلب الوزير ووزارته مجرد كبائن تطل على البحر ولا تضم إلا غرفة وحماما وصالة صغيرة.. وبسرعة تم تعديل الطلب ليصبح غرفتين بدلا من غرفة واحدة.. ثم تقرر زيادة العدد فى محاولة لإرضاء أكبر عدد ممكن.. وبعد أيام وأسابيع وأشهر.. تم الانتهاء من بناء مراقيا أخرى ومختلفة تماما عن مراقيا كما كان يريدها الخبراء وكما كانت تطمح الرؤية الخاصة بتنمية هذا الساحل.. والكبائن التى كانت فى البداية مجرد طلب على هامش المشروع أصبحت فى النهاية هى كل المشروع.. وماتت مراقيا قبل أن تولد كنموذج لبناء وتنمية وتعمير الساحل الشمالى كله.. وولدت مراقيا العشوائية التى لا علاقة لها بالمستقبل ومشروعاته ولا بالسياحة وقواعدها ولا بالاستثمار ومفاهيمه.. وبانتهاء العمل فى هذه القرية العشوائية.. تحولت خطط التنمية إلى مجرد مقاولة لبيع أراض وبيوت وشاليهات وكبائن.. ثم فيلات وقصور فيما بعد.. وشهد الساحل البكر هذا الانفجار العشوائى.. فقد أصبح من لوازم الوجاهة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. مثل نوع السيارة وماركات الثياب والنظارات والساعات ونوع السجائر وشكل الأطعمة والمشروبات.. أن تمتلك الأسرة مكانا فى قرية مراقيا.. ولأن مراقيا لم تكن لتكفى كل هذه المطالب.. وسد حاجة مجتمع فقد وقاره وحكمته واتزانه وانتابته حمى الاستهلاك المجنون والتفاخر الأحمق والأعمى.. فقد صدرت الأوامر والتوجيهات والتعليمات ببناء ست قرى جديدة غير مراقيا.. وقررت وزارة التعمير أن ترفع شعارا حماسيا وساذجا.. كابينة أو شاليه لكل مواطن أو أسرة. واحدة من تلك القرى الست.. كانت مارينا.. التى بدأت أولاً بأربعة كيلومترات.. من الكيلو 94 وحتى الكيلو 98.. ثم تمددت بالتدريج حتى الكيلو 106.. وذلك لاستيعاب أكبر عدد ممكن من المسئولين والكبار وعائلاتهم ومطالبهم.. وشهدت مصر فى تلك الأيام وزارة تتحول على مرأى ومسمع من الجميع من وزارة مسئولة عن تعمير مصر إلى وزارة غاية جهدها ودورها أن تتاجر فى الشاليهات والكبائن داخل قرى الساحل الشمالى.. وجاءت أوقات أصبح فيها المهندس حسب الله الكفراوى هو أهم وأقوى رجل فى مصر.. لأنه باختصار كان الرجل القادر على أن يمنح أو يمنع بيوت الساحل الشمالى ومبانيه.. الكل يخطب وده ويناشده تخصيص ولو غرفة فى أى قرية على شاطئ السحر والأحلام والأوهام.. وأنا واثق أن المهندس حسب الله الكفراوى سيقرأ هذا الكلام ولن يسعده ولن يعجبه.. وسيقول لى إنه لم يتكسب ولم يتربح من وراء طوبة واحدة باعها فى الساحل الشمالى.. وأنا أعفيه مبدئياً من كل ذلك.. لأنه فعلا كان شريفا وأمينا ورائعا.. ولكن ليس معنى الشرف والاستقامة الأخلاقية ونزاهة الجيب والضمير.. أن خطايا لم تحدث وجرائم لم تتم.. ولا يمكن الاستناد إلى نزاهة وشرف المهندس حسب الله الكفراوى لنعفيه من مسئوليته عن جريمة إفساد أحد أهم مشروعات التنمية والسياحة والمستقبل على الخريطة المصرية.. وأتمنى لو دعانى المهندس حسب الله الكفراوى اليوم.. أو سمح لى بأن أدعوه أنا.. لنقوم بجولة فى الساحل الشمالى كما هو الآن بشرط أن تكون معنا الرسومات والتصميمات والخطط التى وضعها الخبراء المصريون والأمريكيون والهولنديون عام 1980.. ونرى الفارق بين ما كان من المفترض أن يتم ويكون وبين ما هو كائن وقائم الآن بالفعل.. أود أيضاً أن أسأل المهندس حسب الله الكفراوى.. وأسأل آخرين وكثيرين جداً غيره لأن الكفراوى لم يعد هو المسئول الوحيد عما جرى: فيم أنفقنا كل هذه المليارات من أرصدتنا القليلة؟ كم مليارا دفعتها مصر والمصريون ليبنوا شاليهات وكبائن وبيوتا لن يجرى استغلالها إلا أياما وليالى قليلة كل عام؟ وباستثناء تلك الأيام والليالى ستبقى تلك الكبائن والبيوت مجرد شواهد من أسمنت على أننا أمة لم تتعلم بعد فضيلة التفكير أو التخطيط.

حتى مرسى مطروح لم يعد به أى استثمار ممكنا.. ولا عادت السياحة مطروحة.. ولا حتى حق بقية المصريين البسطاء فى أى زاوية يطلون منها على ساحل شمال بلادهم.. وبقى العائد الوحيد الذى يمكن أن نجنيه بعدما دفعنا ضعف ديون مصر لنبنى هذا الساحل الشمالى هو أن يلعب الصغار، وأن يقتسم الشباب والصبايا قصص الغرام والهوى وأن يستمتع الكبار بالسمك المشوى برائحة البحر.. وأن يجد كثير من الصحفيين مادة شهية ومثيرة للكتابة فى مثل هذا الوقت من كل عام مع صور عارية وفاضحة.

وياليت الأمر اقتصر على ذلك العبث والسفه.. أو ياليتنا اكتفينا بكل ما ضاع منا لبناء شوامخ الأسمنت وشواهد الطوب والحجر.. وإنما لا يزال الساحل الشمالى ثعبانا يفتح فمه الواسع ليبتلع كل نهار المزيد من أموالنا وثرواتنا وأحلامنا وقدرتنا على التغيير والتنمية.. فالساحل الشمالى أصبح هو المشروع القومى الحقيقى فى مصر منذ أكثر من عشرين عاما.. فالاهتمام الحكومى بمصر كلها لا يمكن مقارنته بالاهتمام بهذا الساحل.. فهذا الساحل.. حكومياً وسياسياً وإعلامياً.. بات أهم وأشد حساسية من الصعيد بأسره ومن كل مدن الدلتا وقراها.. وكل طرقات مصر المتهالكة التى تفيض بدماء الناس وهمومهم وشكاواهم لا تستحق الاهتمام الذى توليه الحكومة لطريق القاهرة الإسكندرية الصحراوى.. بل إن صحافة مصر كتبت فى السنوات العشر الأخيرة عن هذا الساحل أضعاف ما كتبته عن النوبة وأهلها أو منطقة قناة السويس وهمومها أو سيناء وغربتها أو ساحل البحر الأحمر الذى ضاع هو الآخر دون تخطيط أو تنمية ولكن لا أحد ينتبه لأن الكبار.. سياسيين ومسئولين وصحفيين وإعلاميين.. يملكون البيوت فى الساحل الشمالى وليس على سواحل البحر الأحمر.. وهكذا لو افترضنا جدلاً أن أجيالاً مصرية تتناظر وتتناطح تفاخراً بما عاشته ورأته وشاركت فيه.. فسنجد جيل الستينيات فخورا بمشروع السد العالى.. وسنجد جيل السبعينيات يتيه على الجميع بانتصار أكتوبر.. بينما أجيال أخرى كثيرة لن تجد ما تقوله إلا أن تقف مجتمعة وتغنى.. قلنا هانبنى وآدى إحنا بنينا الساحل الشمالى.











مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة