اغلق القائمة

الأحد 2024-04-28

القاهره 09:06 م

محمد حبوشة

الحنين إلى أجواء الجيرة القديمة فى (بيت فرح)

بقلم : محمد حبوشة الجمعة، 02 ديسمبر 2022 07:00 ص

يبدو ملحوظا للكافة أنه مع إطلالة الحياة العصرية، انهارت تلك العلاقة المميزة التي كانت تربط بين الجيران في الماضي، مثلما انهار واختفى كل شيء أصيل وجميل في حياتنا، وبسبب صعوبة الحياة وهمومها ومشاغلها، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، جعلت بعض الناس لا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وإحياء العادات والتقاليد الأصيلة، التي نشأوا وتربوا عليها، والتي تحث على حسن معاملة الجار، وإسداء العون له، وتبادل الزيارة معه، والوقوف إلى جانبه، في السراء والضراء، وفي أوقات الأفراح والأتراح.
 
ولهذا فإننا نجد في مسلسل (بيت فرح) طوق النجاة للاستعادة روح علاقة الجيرة التي كانت تميز المصريين قبل زحف التكنولوجيا على مجمل حياتنا، فقد غاص هذا المسلسل في كيف كانت العلاقة بين الجيران فيما مضى متينة ومميزة، تعوض المرء عن علاقاته العائلية، وهو ما اتضح في علاقة الأستاذ (فرح) مدرس اللغة العربية، الذي جاء دوره في إطار اجتماعى مليء بالمشاعر الرومانسية والشجن، حول رجل يعيش في شقة داخل عمارة سكنية ويعاني من الوحدة والعزلة بعد وفاة زوجته، وتحدث العديد من المواقف مع جيرانه بالعمارة التي تغير شكل حياته تماما، حيث يكون لهذا الشخص حكاية مع كل جارة من جيرانه بالعمارة.
استمتعت بعشرين حلقة من (بيت فرح) من خلال بعض المواقف والمفارقات الكوميدية التي جاءت بحس تراجيدي تبدو تلك العلاقات غاية في الود والتراحم فيما بين الجيران على الرغم من توتر العلاقة بين (فرح/ فتحي عبد الوهاب) و(عاليا/ داليا مصطفي) في بداية الأحداث إلا أن الأيام تثبت عكس ذلك تماما بحيث تتحول عمليات الشد والجذب إلى حالة من الإنسجام على أثر تقلبات الأيام وتحول المواقف على أثر الأزمات التي تتعرض لها بنت أحد الجيران (حنين) التي يقع عليها ظلم وافتراء من زوجها العابث (أيمن زاهر/ عابد عناني) حيث تعاطف معها (فرح) واحتواها وابنتها في بيته، بينما شقيقها (مالك/ محمد علي رزق) يتخلى عنها بفضل تصرفات زوجته الأنانية (ميرا/ ليلى حسين) التي تورطه في قضية يفيق على أثرها وينتبه لتقصيره في حق شقيقية.
 
لقد استطاعت المؤلفة (هبة رجب) أن تقدم لنا خطوطا درامية متداخلة تعيد الاعتبار لعلاقة الجيرة في زمن تاهت فيه القيم والعادات والتقاليد التي تربينا عليها في زحمة (الترند) وغيره من آفات عصرنا الحالي الذي باعد بينا عبر ما يسمى مواقع التواصل الاجتماعي، ومن هنا عمدت (رجب) إلى كتابة حوارا إنسانيا غاية في الروعة جاء على لسان أبطال العمل الذين تباروا في حسن الأداء بقيادة مايسترو الأداء في المسلسل (فتحي عبد الوهاب) الذي تماهي في شخصية (فرح) وذهب بنا إلى حدود  أعلى سقف في أجواء العلاقات بين الجيران فيما مضى، حيث كان يسودها الوئام والانسجام، والتعاون والتلاحم، والتكافل والتكاتف، والتواد والتراحم، عاشوا على الحلوة والمرة، في السراء والضراء، وفي الشدّة والرخاء، وارتبطوا فيما بينهم بأواصر الألفة والمحبة، والوفاء والإخلاص، وحب الخير والعمل به، والإيمان بأهمية الجار، والإحسان إليه، والذود عنه.
 
من خلال حلقات المسلسل الذي ينتمي إلى اللون الاجتماعي وضع صناع العمل أيدينا على  كيف كانت حياة الجيران خالية من المشاكل والتعقيدات، التي فرضتها الحياة العصرية، وسادت بينهم العلاقات الأخوية، القائمة على حب المساعدة والإيثار، فقد كان الجار حتى وقت قريب حاضرا في كل المناسبات والأحداث اليومية التي يمر بها جيرانه، وأهمها الأفراح والأتراح، يتزاورون فيما بينهم، ويعاون بعضهم بعضا، ويشكلون ما يشبه العائلة الواحدة، نتج عنها علاقات مصاهرة، وصداقات حميمة ومديدة.
 
 لقد فقدنا تلك الصور الإنسانية في مفهوم الجيرة عندما كنا أطفالا، كيف كان الجيران يتبادلون فيما بينهم شتى ألوان الطعام، فإلام التي تطبخ نوع معين من الطعام لا يطهى كثيرا في خلال العام ترسل مع ابنها طبقا من ذلك الطعام إلى جاراتها، وهم يبادلونها بطعام مماثل، وهذا أيضا ينطبق على مختلف أصناف المعجنات والحلويات، ولم يكن ذلك مجرد عادة لتبادل الطعام بين الجيران، وإنما كان أيضا تبادلا للألفة والمحبة والمودة فيما بينهم، هذه الصورة الجميلة لا زالت محفورة في ذاكرة الكبار، ولا تكاد تفارقها، رغم مرور السنين الطويلة.
 
كانت استعارة بعض لوازم المطبخ منتشرة بشكل كبير بين الجيران، فلم يكن بمقدور أهل البيت شراء كل اللوازم والأواني المنزلية التي يحتاجونها في المطبخ، فكان الناس يستعيرونها من بعضهم البعض، هذا يطلب (حلة للطبخ)، وآخر يطلب مفرمة لحمة، وذاك يطلب غربال، ورابع يطلب ملاعق وصحون لأن ثمة ضيوفا سيأتون، وخامس يطلب صينية كبيرة لتقديم الطعام عليها ..إلخ، كما كانوا يستعيرون من بعضهم بعض القهوة المطحونة أو (تلقيمة شاي أو سكر)، حيث لم تكن القهوة أو الشاي أو السكر تتواجد باستمرار في البيوت، لأن الشاي كان هو المشروب الشعبي السائد، وكانت القهوة تقدم فقط للضيوف الغرباء، ونادرا ما كان يشربها الأهل والأقارب او الجيران.
 
(بيت فرح) ترجم كل تلك المعاني السابقة وخاصة إذا احتاج الجار إلى بعض المال قصد جاره أولا، قبل أن يقصد أقاربه وأصدقائه، وإذا اشترى أحد الجيران شيئا لأولاده من الباعة المتجولين، اشترى أيضا لأولاد الجيران الحاضرين، لأنهم مثل أولاده، وهو ما كان يفعله الأستاذ (فرح) مع أبناء جيرانه رغم أنه لم يكن لديه أولاد، كما أبدى نوعا من الكرم في استضافة ابنة أحد جيرانه وابنتها الطفلة عندما تعرضت لنوع من الغبن من جانب زوجها الأرعن، وكذلك استضاف جارته التي ماتت قططها على أثر تسرب الغاز في شقته، وكذلك الفتاة القادمة من المنصورة على أثر طردها من جانب زوج خالتها.
 
كما سلط المسلسل أجواء كاشفة على كيف كانت علاقة الجوار في مجتمعنا قبل أن تنفتح علينا الدنيا بزينتها مثالا يقتدى، ونموذجا يحتذى في التماسك والترابط، فكان كل جار يعرف أحوال جاره، ويشاركه همومه وأفراحه وأحزانه، وهو الملاذ الأول عند الحاجة، فعندما تكون هناك حالة طارئة، يكون الجار أول من يهب لتقديم المساعدة، فقد تحول المسافات بين الإنسان وأقاربه، ولكن الجار يبقى دائما هو الأقرب، وقد جسد (الأستاذ فرح) هذه العلاقة الطيبة طبقا للمثل الشعبي القائل: (جارك القريب.. ولا أخوك البعيد)، وذلك من خلال مواقف إنسانية تعكس روحه المحب للجيران.
 
لقد أثبت صناع المسلسل بحسهم الإنساني أن الجار بمثابة الأب والأخ وولي الأمر لبقية الجيران، وكلمته مسموعة، وتلقى الاحترام والتقدير من الجميع، وكنا ونحن صغارا نرى آبائنا وأمهاتنا يصفون جيرانهم ويتحدثون عنهم، بطريقة توحي وكأن الجار طرف مهم في سيرة حياتهم، بل ويبالغون في الإحسان إليهم، وكأنهم أقارب لنا، وقد تربينا على مناداة كبار السن من الرجال (يا عمي أو با جدي) اذا كان متقدما في السن، والنساء (يا خالتي او يا ستي) إذا كانت متقدمة في السن، وذلك احتراما وتقديرا لهم، تماما كما كان يفعل جيران (فرح) حيث كانوا يبدون له نوعا من الاحترام والتقدير حتى أنهم سعوا لإخراجه من عزلته بحيلة جعلته يفكر في الأمر جليا ويقبل على الحياة من جديد مستندا إلى جيرانه الذين أصبحوا أهله ومحور حياته كلها.
 
وكان الجيران في الزمن الماضي، يدا واحدة وأسرة مترابطة، وكان الأبناء يتربون وسط جيرانهم، يراقبونهم إذا خرجوا من البيت، ويحاسبونهم على أخطائهم، مثلما يحاسبون أولادهم وبناتهم، دون إبداء أي اعتراض أو تذمر، أصبح حال سكان عمارة (فرح) يعيشون معا في سكينة وصفاء، وينشدون المحبة والخير لبعضهم، فإذا مرض أحدهم عادوه، وإن حزن واسوه، وإن فرح فرحوا معه، وإذا استغاثهم أعانوه، يبادرونه بالسلام، ويلينوا له الكلام، يأمروه بالمعروف، وينهوه عن المنكر، يصفحوا عن زلاته، ويصبروا على أذاه، مدركين أن الجار هو أخ ورفيق في الحزن والفرح، إذ فرح أحدهم الكل يفرح وإذا مرض أحدهم، الكل يهرع لزيارته والاطمئنان عليه، وإذا توفى أحدهم، يغمرهم الحزن جميعا.. يفرحون معآ، ويحزنون معا، ويجتمعون على المحبة والمودة، ويبتعدون كل البعد عن البغضاء والشحناء والتنافر، وكل ما من شأنه إن يفرق بينهم.. هكذا أصبح حياتهم كما كانت في الزمن الجميل!
 
هكذا صار جار الأمس في (بيت فرح) جار المبادئ الخالدة والقيم السامية اليوم، جار الخير والبركة، جار الألفة والمودة، جاء الوفاء والإخلاص، جار الفزعة والإيثار، جار النخوة والشهامة، جار العسر واليسر، جار الأفراح والأتراح، جار يشبه الزمن الماضي الجميل.. زمن الآباء والأجداد!، الذين ضربوا أروع الأمثلة في الجيرة القائمة على التعاون والتآخي في الله والوطن وحب هذا التراب المقدس.
 
لقد تغيرت معاني الجوار على جناح دراما (بيت فرح) فائقة الجودة ، فبعدما كانت علاقات الجيران في بداية حلقات المسلسل  مصابة بالفتور وروح الشجار على أتفه الأشياء، أصبح الجار في غالب الأحوال ذلك الأخ والأب والصديق، كما كان في السابق، يراعي مشاعر جاره وظروفه، وبعدما كان يشارك في أفراحه وأتراحه في أضيق الحدود، ومن باب المجاملة على الأكثر، أصبح مصدر السعادة والعيش بأمان في بيت واحد تجمعه المحبة والحنين.
 
وبعدما  فسدت علاقات حسن الجوار، وانقطع حبل التعاون والمودة بين أفراده، وأصبحت العلاقة بينهم شبه رسمية وسطحية، على عكس الترابط الاجتماعي الذي كان سائدا في الزمن الماضي، باتت العلاقات بين الجيران في (بيت فرح) تتجاوز إلقاء التحية، عندما يلتقون صدفة عند أبواب العمارة، تغيرت مفاهيم القيم الاجتماعية القائمة على الحب والتعاون، بفعل درامي  في قمة النضوج تنتفي عنه قيم نفعية ومادية قائمة على تحقيق المصلحة الشخصية، وأصبحت العلاقات بين الجيران في ثنايا الحلقات بعدما كانت ترتبط بما يعود عليهم من فائدة مادية، ومنفعة شخصية، دون أي اعتبار للعلاقات مع الجيران، التي أصابها الجفاء والفتور، والتباعد والنفور، أصبحت قائمة على الود والتراحم، بعد أن اشتعلت حرارة التفاعل الاجتماعي بينهم، وأصبح الحرص والتعاون هما الهدف الأول في العلاقات بين الجيران.
 
عالج مسلسل (بيت فرح) ذلك الخلل في العلاقة مع الجيران، وانعكس على أفراد العائلة نفسها، وصرنا نتوق إلى تلك الروح التي كانت تسود بالأمس أجواء العائلة، من محبة ومودة وتعاون وتزاور بين أفرادها، وبعد أن كانت العائلة نفسها مهددة بالتفكك، أصبحت العلاقات بين الجيران تتعدى تبادل الزيارات في المناسبات الاجتماعية، حتى صار حال العمارة هو حال أهل البيت الواحد، الذين ولدوا من رحم واحد، ورضعوا من ثديٍ واحد، وعاشوا في بيت واحد، وأكلوا من صحن واحد، وناموا على فراش واحد
 
ومع كل هذا التغير الكبير الذي طرأ على حياة الناس، إلا أن الأمور بلغت نقطة النهاية القائمة على الإنسانية عند الجميع، وبات هناك علاقات طيبة بين كل الجيران، وما زالوا متشبثين بتعاليم دينهم، وبالقيم والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي نشأوا وتربوا عليها، مما جعلهم يحافظون على أفضل علاقة بينهم وبين بعضهم البعض رغم كل المتغيرات التي أحدثتها الحياة العصرية، واختفت عبارة : (شتان ما بين الأمس واليوم!) من قاموس جيران (بيت فرح) مع حلقة النهاية المفرحة حقا.