اغلق القائمة

الإثنين 2024-04-29

القاهره 12:13 م

بيشوى رمزى

نظرية النفوذ الدولى.. التحول من "القيم العالمية" إلى المصالح المشتركة

بيشوى رمزى الأحد، 11 ديسمبر 2022 02:59 م

ربما تبقى القيم العالمية التي أرستها القوى الدولية الكبرى على المحك، في اللحظة الراهنة، في ظل اختلاف الظروف الدولية والمعطيات القائمة، وأبرزها غياب الاستقرار عن الساحة الدولية برمتها، وهو ما يبدو في حالة "الأزمة الدائمة"، التي باتت تخيم على العالم، وهو ما ينعكس بوضوح في الدور البارز الذي باتت تلعبه دولا، تبدو خارجة عن إطار تلك المباديء التي طالما روج لها الغرب لعقود طويلة من الزمن، على غرار الديمقراطية وحقوق الانسان، والتي أصبحت تحمل قدرا من "الرفاهية" السياسية، في ظل أوضاع عالمية "طارئة"، تبقى في حاجة ملحة إلى إجراءات استثنائية.
 
فلو نظرنا إلى الصين كنموذج للقوى الدولية الصاعدة، ربما نجد أنها واجهت حملات ضارية من التشويه، كـ"دولة مارقة"، وهو ما تجلى في أبهى صوره خلال السنوات الماضية، في إطار الحرب التجارية التي أطلقتها واشنطن تجاهها، خاصة خلال سنوات الرئيس السابق دونالد ترامب، في ظل اختلال الميزان التجارى لصالح بكين، وتداعيات ذلك على الاقتصاد الأمريكي، والذى تراجع بصورة كبيرة، جراء الأزمات المتواترة، بدء من الأزمة المالية العالمية، والحروب التي انغمست فيها الولايات المتحدة، وتفشي الوباء، وصولا إلى الأزمة الأوكرانية، وما تبعها من موجات تضحم عاتية وحالة غير مسبوقة من الغلاء، دفعت إلى غضب شعبي في الداخل، تجسد في احتجاجات وإضرابات، ربما كان أبرزها اقتحام الكونجرس، في يوم الإعلان الرسمي عن فوز الرئيس جو بايدن بالانتخابات الرئاسية الأخيرة.
 
الحالة التي شهدتها أمريكا، في الداخل، والتي امتدت إلى العديد من الدول الأخرى في نفس معسكرها، لا تمثل في جوهرها احتجاجا على سياسات الأنظمة، وإنما تبدو حالة أعم من التمرد على "الديمقراطية"، على الأقل بصورتها الحالية، خاصة وأن المشهد يبدو للوهلة الأولى رفضا لما أسفرت عنه صناديق الاقتراع، وهو ما يمثل مخاضا، قد يسفر عنه تغييرا عميقا في صورة القيم والمباديء الدولية، التي طالما أضفت عليها القوى الدولية الكبرى صبغة "مقدسة"، ساهمت في تشويه الخصوم، الذين احتفظوا بقدر من الاستقلالية، في مواجهة الهيمنة الأحادية المطلقة.
 
وعلى الرغم من حملات التشويه والتضييق الأمريكي على الصين، عبر الأدوات التقليدية، على غرار العقوبات الاقتصادية تارة، وفرض التعريفات الجمركية تارة أخرى، ناهيك عن التلاسن والاستفزازات السياسية في تايوان تارة ثالثة، إلا ثمة انبهار شعبوى في معسكر الغرب الأمريكي بالنموذج الصيني، يمثل في جوهره امتدادا للتمرد العالمي على القيم العالمية، في ضوء نجاحات كبيرة خاصة فيما يتعلق بمكافحة الوباء في الداخل، من خلال اجراءات فعالة، فرضتها على شعبها، ساهمت إلى حد كبير في احتواء الأزمة، بل وفتحت الباب أمام بكين لتقديم الدعم إلى نطاق جغرافي واسع، للمساعدة في حل أزمة ذات طبيعة عالمية، وهو ما يؤهلها للقيام بدور أكبر يتجاوز نطاقها الجغرافي والإقليمي، لتقدم بكين أوراق اعتمادها أمام العالم كقوى دولية مؤثرة يمكنها القيام بدور أكبر في المشاركة في صناعة القرار الدولي.
 
إلا أن تلك الحالة الشعبوية المتمردة على القيم العالمية، ربما وجدت تماهيا دوليا، في إطار متغيرات طرأت، بفعل الظروف الدولية على نظرية "النفوذ" والتي مرت بتغييرات كبيرة خلال العقود الماضية، منها الارتباط بالقوة العسكرية، كما هو الحال خلال الحقبة الاستعمارية، ثم بعد ذلك عبر فرض الرؤى الأيديولوجية على المحيط الدولي، في إطار الحرب الباردة، لتتحول بعد ذلك إلى تعميم القيم العالمية التي أرستها الولايات المتحدة على المعسكر الغربي، على العالم بأسره، في ظل الهيمنة الأحادية، منذ التسعينات من القرن الماضي.
 
حالة التماهي الدولي مع الرغبات الشعبوية العارمة، ربما تجلت في أبهى صورها، مع العديد من المشاهد الدولية الأخيرة، ربما أبرزها القمة التي جمعت بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الصيني شي جين بينج الشهر الماضي، في خطوة تبدو تصالحية، أعلنت خلالها واشنطن التزامها بمبدأ "الصين الواحدة"، وهو ما يمثل تراجعا عدة خطوات للوراء، بعد أسابيع من من زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي إلى تايوان، في خطوة أثارت استفزاز بكين، بل والإعلان عن خروجها من زعامة الديمقراطيين في مجلس النواب بعد ساعات من القمة، في مشهد يبدو استرضائيا بامتياز، في اعتراف ضمني بأهمية الدور الذي يلعبه "التنين" الصيني، وعدم قدرة القوى الدولية الحاكمة على خوض معارك دولية متزامنة، في ظل العجز عن التعامل مع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها.
 
القمة العربية - الصينية، هي الأخرى تبدو وجها أخر لحالة التماهي الدولي مع التمرد الشعبوي على "القيم العالمية" التي طالما تشدق بها الغرب، بل وخطوة نحو إرساء قواعد جديدة قائمة على "المصالح المشتركة"، في ظل حالة من الثقة في بكين، تناولتها بإسهاب في مقالي السابق، ترجع في الأساس إلى حالة الاستقرار السياسي، وثبات المواقف التي تتبناها بكين، على عكس الولايات المتحدة التي تغيرت مواقفها، سواء تجاه الحلفاء أو الخصوم، في السنوات الماضية مع تغير الإدارات.
 
التقارب العربي مع الصين، والذى يصل تدريجبا إلى الذروة، يتزامن مع خطوات أخرى من قبل الغرب الأوروبي، ولو على استحياء، في ظل الحاجة لإيجاد بديل تجارى لواشنطن، بعد الخطوات الأمريكية المتواترة، فيما يتعلق بالتجارة، وعجزها عن تقديم الدعم لحلفائها في تقديم حلول جذرية للأزمات التي تواجهها، بل وتوجهها نحو التضييق عليهم، وهو ما يبدو في قانون مكافحة التضخم، والذي أثار غضب أوروبا العجوز، فى ضوء تداعياته الكارثية على المصانع الأوروبية، وهو ما يعني زيادة دائرة النفوذ الصيني، ونجاح بكين في اختراق مناطق تمثل عمقا استراتيجيا للغريم الأمريكي.
 
وهنا يمكننا القول بأن نظرية النفوذ الدولي باتت مرتبطة إلى حد كبير بـ"المصالح المشتركة"، وليس "القيم العالمية"، في إطار تطغي عليه حالة من المرونة في التعامل مع كل دولة وإقليم، بما تفرضه الظروف الداخلية والإقليمية، بعيدا عن الأفكار المعلبة، المستوردة من الخارج، لتتحول معها الديمقراطية العالمية، إلى حالة دولية، تخضع معاييرها في الأساس لسيادة الدولة، يمكن تطويرها تدريجيا، طبقا للظروف والمعطيات المتاحة.