اغلق القائمة

الثلاثاء 2024-04-30

القاهره 04:33 ص

داليا مجدى عبد الغنى

داليا مجدى عبد الغنى تكتب: الشحن الوهمى

الجمعة، 26 أبريل 2019 06:59 م

فى أحد الأيام السابقة اضطررت إلى الذهاب إلى أحد محلات صيانة المحمول لشراء بطارية لهاتفى الجوال، وبعد أن اشتريتها، نصحنى صاحب المكان ألا أشحن البطارية إلا بعد أن تنفد شحنها أولاً، فسألته وكيف يكون بها شحن رغم عدم شحنها؟ فرد بأن الشحن الموجود بها هو مجرد "شحن وهمى"، لذا لا يستغرق وقتًا حتى ينفد.

 

والحقيقة أن عبارة "شحن وهمى" استرعت انتباهى بشدة، فهو تعبير له رنين غريب، فهل هذا الاصطلاح يسرى فقط على البطاريات، أم أنه يمكن أن يسرى على المشاعر والأحاسيس والأعصاب كذلك، فأظن أن هذا المصطلح ينطبق على الكثير من الأشخاص، فهناك بعض الناس تجدهم فى بداية تعاملهم أو إقامة علاقاتهم مع غيرهم، فى غاية الرقة والاهتمام، لدرجة أنك تشعر أن كلمة إنسانية خُلِقَت من أجلهم، فكم نجدهم لديهم رؤية خاصة وأفكار راقية، وكلمات رنانة، وأحاسيس متدفقة، ولكن تأتى لحظة وينتهى كل هذا أيضًا فى لحظة، وهنا يُصاب من حولهم بالذهول، فهل كان ما سبق مجرد أداء تمثيلى رائع، وانتهى بانتهاء العرض، أم أنه كان إحساسًا عارضًا، كالعَرَض المرضى، الذى لا يستغرق وقتًا، وما يلبث أن يذهب دون علاج، وتظل الحيرة والأسئلة التى ليس لها أجوبة.

 

ولكن أتت إحدى الشخصيات وأجابتنى على هذا السؤال، حيث إننى عندما تعاملت مع هذه الشخصية، كم كان انبهارى بها، ولكن بعد بضعة أشهر، وجدت وجهًا آخر، لدرجة أصابتنى بالدهشة، وانتظرت أيامًا وشهورًا، لعل هذا التغيير الذى حدث لها لأسباب طارئة، ما تلبث أن تنتهى، وتعود لطبيعتها التى عهدتها عليها، ولكن الحال تدهور من سيئ إلى أسوأ، فاضطررت لمواجهتها بما كانت عليه، وما آلت إليه، وجاءنى الرد بمنتهى الصراحة والوضوح، وهو أن البداية الرائعة كانت متدفقة لدرجة أن كل طاقتها قد استنفدت.

 

وعلى قدر ما كان الرد قاسيًا ومؤلمًا على قدر ما جعلنى أكتشف صفات بشرية جديدة لم أكن أدركها من قبل، حتى سمعت عبارة "الشحن الوهمى"، فأدركت أن بعض البشر أيضًا يكون شحنهم شحنًا وهميًا، فطاقة الإنسان متجددة بطبيعتها، طالما أنه صادق فى كل تصرفاته وسلوكياته، أما الإنسان الذى يستنفد كل طاقته، ثم لا يجد شيئًا ليعطيه، فهو لا يخرج عن أمرين، أحدهما أن تكون تصرفاته وأحاسيسه مُوظفة لخدمة غرض معين، وعند وصوله لمآربه، تنتهى طاقته تمامًا، والآخر أن يكون قد تحمَّل سلبيات غيره، وتغيراته وتقلباته، وظل يمنح الفرص، ويختلق الأعذار والمبررات له، وتسامح معه، وتغاضى عن عيوبه، وسانده وأخلص له ونصحه، ولكن كل هذا فى النهاية ذهب أدراج الرياح. فهنا أيضًا تُستنفذ طاقة هذا الشخص، ولكن ما يفرق الحالة الثانية عن الأولى، هى أن الأولى كان شحنه وهميًا، أما الثانى فطاقته متجددة، ولكنه قرر ألا يمنحها لمن لا يستحق، فتوفير الطاقة البشرية أهم كثيرًا من توفير الطاقة الصناعية.

 

وأخيرًا، أود أن أكرر أن الإنسان الذى يسمح لنفسه أن يُصَدِّر لغيره الأوهام، فهو قد يظن أنه شخصًا قويًا، لقدرته على إيذاء الآخرين، ولكن فى الواقع هو أضر بنفسه؛ لأنه يعيش فى السراب، ولا يمنح إلا السراب، أما من أضره، فهو قادر بلا شك على العطاء، وسيجد من يمنحه الصدق والإخلاص، فأنت تستورد ما تُورد، فإذا صدَّرت الأوهام، فلا محالة ستكتشف أنك استوردتها، ولو صدَّرت الصدق، فتأكد أنك لن تستورد غيره، فالأحرى بنا أن تكون طاقتنا متجددة، وأن نُفرغ قلوبنا من الشحن الوهمى، فهل تُصدقون أننى بعد ابتعادى عن هذه الشخصية، اكتشفت أن طاقتى لازالت قوية، وأن قدرتى على العطاء لا حدود لها؛ والسبب ببساطة أننى لم أسمح لنفسى قط أن أشحن قلبى بالأوهام، ولم أُصدِّر فى يوم من الأيام الأوهام للآخرين، فالإنسان الحقيقى هو من تزيد طاقته كلما أعطى ومنح، أما من يُصَدِّر الأوهام، وتقل طاقته بالعطاء، فسيأتى عليه يوم لن يقبل قلبه الشحن، مثل بطارية هاتفى، التى رفضت الشحن، فهل يُعْقل أن يقبل الإنسان أن يكون مثل البطاريات، له مدة وتنتهى صلاحيته؟!