اغلق القائمة

السبت 2024-04-27

القاهره 10:53 م

د. عباس شومان

تيسير المهر لا إلغاؤه!

كتب عباس شومان الخميس، 23 أغسطس 2018 12:00 م

تابعت خلال الفترة الأخيرة ما تداولته بعض وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعى من طرح رؤى وأفكار تطالب بإلغاء المهر، أو جعله اختياريًّا، بدعوى أنه تقليل من شأن المرأة، وإخلال عميق بكرامتها.
 
وبنظرة منصفة إلى حال المرأة قبل مجىء الإسلام وبعده، وفى ظل تلك الرؤى التى لا تستند إلى فكر سوى أو دليل شرعى؛ أؤكد بلا أدنى شك أن الإسلام كرّم المرأة واحترم آدميتها؛ فقد ساوى بينها وبين الرجل، وفرض لها من الحقوق ما يؤكد هذه المساواة؛ قال تعالى: « وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، وذلك بعد أن كانت المرأة - عدا قليلًا من النساء - تورث كما يورث المال والمتاع، وكانت فى سوق الرقيق سلعة تباع وتشترى، وكانت عند بعض الرجال وسيلة للمتعة لا غير! 
 
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أن نظّم مسألة ارتباطها بالرجل، فجعل العلاقة بينهما فى زواج مشروع حدد إطاره تحديدًا دقيقًا محكمًا، بأن وضع له مجموعة من الإجراءات تنتهى برباط مقدس يجعل منها ومن الرجل الذى ارتبطت به كيانًا واحدًا، وأثبت لها الإرادة الكاملة فى بناء هذه العلاقة، فحين يتقدم الرجل لخطبتها من ولى أمرها، فإن لها الحق كل الحق فى قبوله أو رفضه دون إلزامها أو إجبارها على الزواج منه، فعدم رغبتها فى الارتباط يكفى لعدم إتمام الخطبة، وساعدها الشرع أيضًا فى اتخاذ قرار ارتباطها، عندما حدد لها مواصفات زوج المستقبل الذى تُرجى معه استدامة الحياة بينهما وسعادتهما معًا. بل إن الإسلام تجاوز ذلك، إذ أباح للمرأة أن تكون مبادِرة، فأعطاها الحق فى أن تخطب الرجل الذى تريده زوجًا إن هى شاءت، مثل الرجل تمامًا، وإن كان الغالب أن الرجال هم من يخطبون النساء. وأثبت الإسلام للمرأة أيضًا الحق فى إنهاء الخطبة والارتباط؛ مساواة لها بالرجل الذى يحق له العدول عن الخطبة إذا كان هناك سبب يرجح ذلك، فلم يفرّق الإسلام بين الرجل والمرأة فى قضية الإرادة والاختيار واتخاذ القرار فيما يتعلق ببناء حياة جديدة.
 
فإذا رضى كل واحد منهما بالآخر، وقبله شريكًا فى حياته عُقد الزواج الذى حدد له الشرع أركانًا وشروطًا لتمامه وصحته كسائر العقود، بل اختص هذا العقد لشرفه وأهميته من بين كل العقود باعتباره ميثاقًا غليظًا، قال تعالى: «وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا». 
 
ومن مظاهر تكريم الإسلام للمرأة أيضًا واحترامه آدميتها أن أراد لها أن تكون عزيزة مطلوبة؛ ففرض لها فى سبيل ذلك مهرًا ماليًّا لم يضع حدًّا لنهايته، بل إن على الرجل أن يكد ويسعى ويجتهد لتحصيل هذا المهر، وبذله عن طيب نفس وصدق فى طلب استدامة الحياة مع هذه المرأة، وتمتين العلاقة الزوجية، حتى إنه ليسمى صداقًا، وهذا المهر أو الصداق هو حق واجب للمرأة على الرجل، عطية من اللَّه تعالى مبتدأة، أو هدية أوجبها الشرع على الرجل بقوله تعالى: «وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً»؛ إظهارًا لخطر هذا العقد ومكانته، وإعزازًا للمرأة، وإكرامًا لها، وإعلاء من شأنها. 
 
وقد أجمع الفقهاء على أن المهر لازم فى كل نكاح، ولا تملك الزوجة نفسها - وهى المستحقة له - أن تتنازل عنه قبل ثبوته فى العقد، فإذا تم العقد ثبت المهر المتفق عليه، وإن تم العقد ولم يُسّمَّ مهرٌ، فللمرأة مهر مثلها من النساء، فإن أرادت أن تتنازل عنه أو عن جزء منه بعد ذلك فهذا حقها، لكنها لا تملك هذا الحق بداية؛ فقوله تعالى: « فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَّرِيئًا»، يعنى التنازل عن جزء منه، ولا يعنى بحال إسقاطه قبل ثبوته، لأن التنازل لا يكون قبل الملك، وإنما يكون بعده.
 
ولا يجوز للرجل بحال أن ينقص من المهر المتفق عليه؛ فهو دين متعلق بذمته، إن لم يقضه فى حياته قضى من تركته قبل تقسيمها على الورثة؛ فتأخذ الزوجة ما تأخر من زوجها، ثم تأخذ نصيبها من التركة بعد ذلك، وإن مات شخص ولم يترك إلا مقدار مؤخر صداق زوجته، وترك ورثة معها، أخذت ما تركه إن كان فى حدود مؤخر مهرها أو أقل، ولا شىء للورثة؛ لأن قضاء الدين مقدم على حق الورثة، وإنما لم يجز للزوج إنقاص شىء من مهر الزوجة لقوله تعالى: «وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا».
 
ومما يدل على حتمية المهر، وعدم جواز إسقاطه حتى إن كان الزوج فقيرًا، ما روى أن امرأة جاءت تهب نفسها للنبى، صلى الله عليه وسلم،  فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله، إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، فقال: فهل عندك من شىء؟ فقال: لا والله يا رسول الله، قال: اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئًا؟، فذهب ثم رجع فقال: لا والله ما وجدت شيئًا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: انظر ولو خاتمًا من حديد، فذهب ثم رجع فقال: لا والله يا رسول الله، ولا خاتمًا من حديد، ولكن هذا إزارى فلها نصفه، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم : ما تصنع بإزارك إن لبِسْتَه لم يكن عليها منه شىء، وإن لبِسَتْه لم يكن عليك منه شىء، فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، موليًا فأمر به فدُعى به فلما جاء قال: ماذا معك من القرآن؟ قال معى سورة كذا وسورة كذا عددها، فقال : تقرؤهن عن ظهر قلبك؟ قال : نعم، قال: اذهب فقد زوجتكها بما معك من القرآن.
 
فهذا الحديث النبوى الشريف يفيد عدة أحكام، منها: حتمية المهر وعدم جواز التنازل عنه؛ لأن الرسول لم يسأل المرأة بعد علمه بفقر الصحابى، ولو كان يجوز لها ذلك لسألها، وتدرجه صلى الله عليه وسلم مع الرجل فيما معه من مهر يفيد حتمية المهر، ويفيد كذلك فضل التيسير فيه، كما يفيد أيضًا أنه يجوز أن يكون المهر منفعة لا مالًا نقديًّا فقط. 
 
وبناء عليه؛ فإن المهر أو الصداق حق واجب للمرأة على الرجل، عطية من الله تعالى، أو هدية أوجبها الشرع على الزوج، لا يجوز بحال إلغاؤه أو جعله اختيارًا، وإذا كنَّا نثبت للمرأة هذا الحق، فإننا فى الوقت نفسه ننبّه إلى أن طغيان العادات والتقاليد الاجتماعية فيما يتعلق بالمهور لا يعنى بحال أن هناك خللًا فى التشريع الإسلامى؛ فالتشريع كما بيَّنا سلفًا بلغ الغاية فى تيسير الزواج؛ حفاظًا على كرامة المرأة وعرضها، وتحصينًا وترغيبًا للشباب المقبلين على تلك الخطوة، وحرصًا على عدم إفشاء الفاحشة فى المجتمع المسلم بالمغالاة فى المهور، وعليه؛ فإن على أولياء الأمور ضرورة التيسير فى أمور الزواج، وعلى رأسها المهور؛ فهذا مأمور به شرعًا، وثابت فى سنة نبينا الأكرم، قال صلى الله عليه وسلم: «أكثرهن بركة أقلهن صداقًا»، وقال أيضًا: «خير الصداق أيسره».