اغلق القائمة

الأحد 2024-04-28

القاهره 08:53 ص

علاء عبد الهادى

عودة الخواجه بيجو

بقلم علاء عبد الهادى الثلاثاء، 08 مايو 2018 10:00 ص

وجه حديثه الى قائلا : " انتى " من مصر ؟
إلتفت حولى معتقدا أن الرجل الثمانينى ذو البشرة الحمراء الذى يجلس على كرسى فى حديقة عامة بالقرب من معبد " أكربوليس " أشهر معابد الأثرية فى أثينا باليونان ، يحدث أحدا غيرى .. ولكنه اعاد السؤال موجها حديثه لى ومشيرا الى بعصاة يتكىء عليها : " إنتى .. إنتى ".
 
-بعد تردد وبابتسامة يغلب عليها علامات الإستفهام قلت له : أيوه مصرى .
رد الرجل ، وقد انفرجت أساريره ، وجرت الدماء فى عروقه وقال : أنا كمان مصرى ، أنا اسكندرانى ، مواليد حى الجمرك .
 
تركت الرجل يتحدث ، كان يريد ان يتحدث ، ورغم أن اللغة العربية " المكسرة " كانت حاضرة ، وغابت عنه أغلب مفرداتها ، واستعان بحركات تمثيلية لكى يحكى لى حكايته ، وكيف أنه قضى صباه وشبابه ، فى شوارع الإسكندرية ، وكيف أنه يحفظها كما يحفظ كف يده .. وكيف أنه يحفظ أغانى أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وشادية عن ظهر قلب ..وكيف أنه من عشاق الرقص الشعبى المصرى .
 
وفجأة توجه الى بسؤال : " إنتى " تعرفى ايه الفرق بين رقص سامية جمال ، ورقص تحية كاريوكا ؟! أنا أعرف !
استغربت السؤال وكان ردى بابتسامة وهزة كتف      .
 
لا أتذكر اسم الرجل ، ولكن كل ماأتذكره هو عشقه اللامحدود لتراب مصر ، هى بالنسبة له الجنة التى أخرج منها هو واسرته رغم أنفهم ، وترك عمره وذكرياته ، هناك فى شوارع الإسكندرية التى قال لى قبل أن أتركه " اسكندرية مارية  " .
 
هذا " الخواجه " الذى قابلته فى أثينا قبل سنوات ، قابلت أمثاله فى الكثيرين فى شتى أنحاء العالم .
قبل عشر سنوات تقريبا كانت مصر ، ممثلة فى فرقة للفنون الشعبية ،  ضيف شرف فى معرض فى سويسرا ، وارتأت ادارة المعرض أن يقدم المطعم الأساسى للمعرض أكلات مصرية ، وهو ما حدث بالفعل ، وتصدت لهذا الأمر شركة مصرية يمتلكها مهاجر سويسرى من أصول مصرية اسمه أشرف على ما أتذكر.. المهم وجدت من بين الحضور سيدة تعرفت على كل أعضاء الفرقة تقريبا ، وراحت تلتقط معهم صورا تذكارية ، تحدثت إليها ، وحكت حكايتها مصحوبة بدمعات هربت من مقلتيها ، وهى تستعيد ذكرياتها عن حى " الضاهر " الذى ولدت به وكبرت وعن مدرسة " السكركير " التى تعلمت فيها وعن المستشفى القبطى الذى كان والدها يعالج فيها ، وكيف اضطرت الأسرة الى " الهروب " من مصر مع آلاف الأجانب الذين هربوا بسبب اجراءات " ناصر " .
 
قالت السيدة : ظلت علاقاتى ممتدة بكل صحباتى اللاتى ولدت معهن ، ولعبت معهن فى شوارع " الضاهر " وظلت التليفونات ممتدة ، حتى انقطعت ، " اللى مات مات " والأبناء والأحفاد لا يعرفوننى .. والأن أنا أعيش أسيرة الماضى المحبوس فى شوارع القاهرة .
 
واختتمت حديثها لى بقوله : أنا موش خواجاية ..أنا مصرية.." زيى زيك "..هل تصدقنى لو قلت لك أننى أتمنى عندما أموت أن أدفن فى مصر؟!!!
حالة ثالثة قابلتها فى سان فرانسيسكو ، ولكنها كانت لمصرى يهودى الديانة ، حكى حكايته هو الآخر ، وكيف أنه وأهله يعيشون أسرى عشق مصر التى ولد فيها – زى أى مصرى على حد قوله – وكيف أن اسرته اضطرت للهروب من مصر بعد حرب 67 خوفا على حياتهم ، ذهبوا فى البداية لعدة سنوات الى فرنسا ، ومنها كانت أمريكا المحطة الأخيرة .. قالى لى : زرت مصر عدة مرات ، ولكن بصفتى أمريكى ، وذهبت الى مكان العمارة التى كنا نعيش فيها ، وكانت أربعة أدوار، فوجدتها لم تعد موجودة ووجدت مكانها برجا عاليا .
 
هذه الحكايات تلخص حال مئات الآلاف من أبناء الجاليات التى استوطنت مصر نهاية الفرن فبل الماضى ومطلع القرن العشرين ، ووجدت فيها كل أسباب الإستقرار : من شعب غير عنصرى ، يرحب بالغريب ،ويكرم ضيافته ، إضافة الى أسباب تاريخية هذا ليس مجال ذكرها ، مثلما حدث مثلا مع الأرمن الذين هربوا من إبادة الأتراك العثمانيين لهم ، ووجدوا فى مدن وقرى مصر ملاذا آمنا ، فيها يعيشون ، ويستثمرون ويعمرون ، الى الحد الذى أصبحت فيه هذه الجاليات جزء لا يتجزء من نسيج المجتمع المصرى  .
 
الأمر قد يبدو غريبا عليك وعلى الآن  ، ولكن متابعة سينما النصف الأول من القرن الماضى ستكشف لك مثلا أنه لا يكاد يخلو فيلم من وجود صاحب محل بقالة يونانى أو حلاق أرمنى ، أو ريجيسير " طليانى " وستجد أن الغالبية العظمى من راقصات الأفلام الاستعراصية ، والكومبارس كن من بنات الجاليات الأجنبية ، ووصل الأمر الى خلق شخصية مثل شخصية "الخواجة بيجو " على يد الفنان العظيم الراحل فؤاد راتب لتجسيد شخصية الخواجة اليونانى ، الى الحد الذى لا يعرف أغلبنا اسمه الحقيقى  . 
 
مبادرة العودة الى الجذور ،التى أطلقتها وزارة الهجرة ، ورعاها الرئيس عبد الفتاح السيسى بذكاء يحسد عليه ، لا يجب أن تقف عند هذا المرحلة الجميلة ، ولكنى أرى أنه يمكن تطوير ورعاية هذا البذرة ، وتحويل أبناء وأحفاد هؤلاء الذين عاشوا فى مصر الى " لوبى " يتبنى وجهة النظر المصرية ويدافع عنها ، كما يمكن لوزارة السياحة ان تقوم بعمل برامج سياحية تستهدف هؤلاء لربطهم بهذا الوطن الذى على أرضه نشأوا وترعرعوا وتربوا .. يجب ان تبحث مصر عن ابنائها " الخواجات .