اغلق القائمة

الإثنين 2024-04-29

القاهره 05:49 ص

د.عباس شومان

التجديد والافتراء على العلماء

بقلم - د.عباس شومان الجمعة، 17 فبراير 2017 11:00 ص

اختلف الفقهاء قديمًا فى كثير من المسائل الفرعية، ووصل الخلاف بينهم إلى أن وجدنا الرأى ونقيضه، ففى حين رأى بعضهم نجاسة الكلب مثلًا، رأى بعضهم الآخر طهارته، وفى حين رأى بعضهم نقض الوضوء بخروج دم نتيجة جرح أصاب الجلد مثلًا، رأى بعضهم الآخر عدم تأثر الوضوء بخروج هذا الدم... إلخ، واختلف المتأخرون كذلك فى كثير من المسائل، فقال بعضهم بتحريم التدخين، وقال بعضهم بكراهته فقط، بينما رأى بعضهم الآخر إباحته، وغير ذلك كثير من المسائل الفقهية التى اختلف فيها العلماء، نتيجة أسباب علمية معروفة ليس من بينها حب الخلاف ولا اتباع الهوى. ومما يحمد للفقهاء الحقيقيين قديمًا وحديثًا التحلى بالأدب الجم مع المخالف فى الرأى، واحترام المختلف فى المذهب، فها هو الإمام الشافعى صاحب المذهب المعروف يثنى على الليث بن سعد الفقيه المصرى الجليل، ويقول عنه: «كان أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به»، أى أنهم لم يهتموا بالتصنيف عن شيخهم الليث ونقل آرائه كما فعل أتباع أئمة المذاهب الأخرى، فاندثر مذهب الليث ولم يبقَ له أتباع. ورأينا الشافعى كذلك يثنى على الإمام مالك الذى تتلمذ عليه، ويقول: «لا يفتى ومالك فى المدينة». ورأيناه أيضًا يثنى على الإمام أبى حنيفة، ويصلى الوتر على مذهبه لمجرد أنه كان قريبًا من قبره، وحين سأله أصحابه عن سر صلاته للوتر ثلاث ركعات متصلة بقنوت مع أن مذهبه الفصل بين الشفع والوتر، أجاب بقوله: «استحييت أن أخالف الإمام الأعظم فى حضرته»، مع أن الرجل كان فى قبره! ومن ثناء الشافعى على أبى حنيفة أيضًا قوله: «كل الناس فى الفقه عيال على أبى حنيفة». ورأينا الشافعى كذلك يمتدح شيخه محمد بن الحسن تلميذ الإمام أبى حنيفة، قائلًا: «أخذت عنه حمل بعير من العلم»، مع أن رتبة الشافعى الفقهية أعلى من محمد بن الحسن، فالشافعى صاحب مذهب كأبى حنيفة شيخ محمد بن الحسن، بينما محمد بن الحسن من الطبقة الثانية فى المذهب الحنفى. وها هو الإمام أحمد بن حنبل الذى عاش عمرًا بعد شيخه الشافعى ما نسى أن يدعو له فى صلاة من صلواته، حيث يقول: «ما نسيت مرة أن أدعو لشيخى الشافعى فى صلاة من صلواتى».
 
والدارس لكتب الخلافيات كالتجريد للقدورى أو الحاوى للماوردى أو خلافيات البيهقى، يقف على أدب الخلاف ورقى التعبير عن الرأى واحترام وتبجيل المخالف شخصًا وعلمًا، حتى عند تعقب رأى المخالف لبيان ضعفه ورجحان الرأى الآخر. صحيح أنه كان هناك شذوذ من بعض العلماء لهذا النهج، ومنهم ابن حزم الظاهرى الذى كان يتعرض كثيرًا لأبى حنيفة، لكن ذلك لم يكن دأب العلماء وديدنهم حينئذ، أما فى زماننا المعاصر فنرى كثيرًا من الناس يتعرضون للعلماء ويفترون عليهم ويقوِّلونهم ما لم يقولوه، بل ربما ترى شيئًا من ذلك بين العلماء أنفسهم، حيث يتحول الاختلاف فى الرأى إلى خلاف وتجريح وإهانة للشخص المخالف والتعرض لحياته الشخصية بعيدًا عن التناول العلمى بتقديم الأدلة القاطعة والبراهين الساطعة على ما يخالف رأيه، وربما يرمى المخالف بالجهل، وربما بالكفر أحيانًا! وإذا كان ثمة عذر يلتمس لغير العلماء وأنصاف المتعلمين والمتفقهة فيما يخوضون فيه من تجريح العلماء وإهانتهم وعدم التأدب معهم، فلا عذر لمن يحسبون على العلماء المتخصصين فى مجاراتهم العوام وأصحاب المصالح والأهواء فيما يقعون فيه بحق العلماء، حيث إن ذلك يعد دليلًا قاطعًا على عدم إفادتهم من علمهم الذى تعلموه ومن سيرة سلفنا من العلماء وأدبهم فى الخلاف الذى يتجلى فيما هو دارج اليوم على الألسنة: «الخلاف فى الرأى لا يفسد للود قضية».
 
ومع ذلك، فليس عيبًا أن يختلف العلماء فيما بينهم فى أحكام المسائل الفرعية الاجتهادية، فوقوع الخلاف فى المسائل الاجتهادية مقصود فى شريعتنا تيسيرًا على الناس، ولكن العيب كل العيب يكمن فى التعصب للرأى والإنكار على المخالف متى كان من المجتهدين، والعيب كل العيب أن يتجاوز الاختلاف محله ليتحول إلى خلاف وعداء بين المختلفين، فليت المنتسبين إلى العلم المنتمين للعلماء يتأدبون بأدب سلفهم كما يفعل كبار العلماء حين يجلسون على طاولة النقاش العلمى، حيث ترى الرأى ونقيضه فى الوقت والمكان نفسه، لكن لا غضاضة عند أحدهم أن يوافق مخالفه الرأى من دون أدنى حرج بعد استعراض الأدلة وبيان الحجج، فإن انتهت الجلسة وبقى الخلاف رأيت الود باديًا بين الجميع وكأن نقاشًا حاميًا واختلافًا بينًا لم يقع بينهم قبل قليل، وأقول لمن يحاول الزج باسمه بين العلماء ولأصحاب الأهواء والمصالح والمنتفعين من إثارة الفتن بين العلماء وغيرهم: لا تفتروا على العلماء الكذب، واعلموا أنه «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يوم تشهد عليكم ألسنتكم وأيديكم بما كنتم تصنعون، فستسألون عن كذب ألسنتكم، وستسألون عما خطته أيديكم بأقلامكم المقصوفة كذبًا وافتراء، وستندمون يوم لا ينفع الندم، واعلموا كذلك أنكم لن تضروا بأقوالكم ولا بكتاباتكم، ولن تغيروا ما قدره الله عز وجل، بل إنكم بذلك تحرقون حسناتكم وتهدون ما تبقى منها لمن افتريتم عليهم، فإن لم يكن لكم حسنات أُخذ من سيئاتهم فطرحت عليكم!