اغلق القائمة

الجمعة 2024-05-03

القاهره 06:17 م

شيخ يقرأ القرآن فى عزاء متوفى مسيحى

"مصر الحلوة.. قانون المحبة يحكم".. رجل دين يقرأ القرآن فى عزاء مسيحى بشبرا وجدل عبر السوشيال ميديا.. الشيخ: أنا صديق العيلة من 15 سنة.. أخو المتوفى طلب "سورة مريم".. والدعاة المتشددون يروجون للكراهية

كتبت مريم بدر الدين - سمير حسنى الأربعاء، 14 ديسمبر 2016 04:37 م

قبل ثلاثة أيام بكت مصر بأكملها، من الشمال للجنوب ومن الشرق للغرب، لا فارق فى ذلك بين صعيدى وسيناوى، أو نوبى ودلتاوى، وبالتأكيد لا فارق بين مسلم ومسيحى، فخبر تفجير الكنيسة البطرسية صباح الأحد، وخلال القداس وأداء الصلاة لرب الناس، آلم الجميع وأصاب قلوبهم فى حشاشتها، هيّج المشاعر الحزينة وفجّر الدموع، ولم يدر العقل على نفسه لحظة واحدة ليفكر فى هوية من مات أو دينه أو مكان موته، فى الأخير هو مواطن مصر، عجن الله جسده وشكّل روحه من طين هذا البلد وهوائه، وارتوى هذا الطين من النيل، واهتزت الروح خوفًا على مصر وهلعًا على المصريين ومحبة للوطن بكل ما فيه، وهذه وحدها أخوّة كافية للفرح معًا والبكاء معًا، أو هى الأخوّة الحقّة والرابط الأهم، الذى تحفظه قلوب المصريين المصريين، ما لم يخالطها دنس عمالة أو إرهاب.

هذا الرابط القوى والحبل المتين بين أبناء هذا البلد، هو ما يسبك الهوية المصرية فى سبيكة ذهبية لامعة، تختلف عن كل ما يمكنك رؤيته على امتداد العالم ومن شعوب الأرض، هكذا يمكنك أن تجد مسيحيًّا يجاهد نفسه لصيام نهار رمضان مراعاة لجيرانه وزملائه، وأن تجد آخر يطعم الطعام ويؤتى الصدقات فى أيام رمضان، يقيم "مائدة رحمن" للعابر وابن السبيل، هكذا تمتلئ بيوت المسلمين بجيرانهم المسيحيين فى الأعياد والمناسبات الدينية، وتمتلئ بيوت المسيحيين وكنائسهم بالمسلمين المحبين فى الأعياد والمناسبات، وهكذا فقط، ووفق الهوية المصرية المختلفة والتى لا شبيه لها، يمكن أن يحضر القرآن فى صيوان عزاء مصرى مسيحى، دون غضاضة ولا فرز ولا استغراب، فمنطق المحبة وما تحمله القلوب ويعلمه رب القلوب، يبرر كل شىء ويعيطه طعمًا ورائحة لا تخطئها الأفهام القويمة والأرواح المستقيمة.

 

القرآن فى سرادق عزاء مسيحى.. قانون المحبة يحكم

"فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)" سورة مريم 29- 34.. هل فكرت يومًا أن مواطنًا مسيحيًّا فقد ابنًا أو أخًا، يمكنه أن يجلس مستمعًا حكاية القرآن لقصة السيدة العذراء والسيد المسيح، كعزاء له فى مصابه ورحمة لفقيده؟ إن لم تفكر فى الأمر أو تتخيله، وإن اعتبرته وهمًا ودربًا من الخيال، فأنت لم تعرف مصر ولا المصريين بحق.

فى حى شبرا، القطعة الكوزموبوليتانية بالغة التنوع والثراء من مساحة مصر، المعروف دائمًا بالتآلف والتآخى بين أهله وناسه، وتذويب الفوارق الاجتماعية والثقافية والدينية بعظمة وجلال وبساطة، حضر الشيخ نزيه متولى حضورًا مميزًا ومختلفًا، لا تخطئه العين ولم تعتده، فالشيخ الأزهرى قارئ القرآن تجلّى وارتقى كرسيًّا فى صيوان عزاء مواطن مسيحى، ليرتل آيات من سورة مريم، مستدعيًا بركات السيدة مريم والسيد المسيح، برواية القرآن وروحه، لروح محبة من جموع محبيهم، تنيّحت وارتقت للسماء على رجاء القيامة، وربما كانت تسمع هذه الآيات قبل أن تفارق الجسد، ولا دخل هنا لمعادلة الإيمان بها من عدمه، هنا منطق المحبة والتقدير هو الحاكم، هنا منطق مصر.

 

استغراب وجدل بعد الموقف.. والشيخ: شقيق المتوفى صديقى من 15 سنة

التصرف الذى فعله الشيخ نزيه متولى، على جماله وعذوبته وقدرته على الإدهاش والإبهاج، كان أكبر من عزاء عادى، أو قارئ قرآن عادى، كما كان متوقعًا، فالمحبة كثيرًا ما تبتكر وسائل أكثر رقة وتوهجًا فى التعبير عن نفسها، ونشهد أن هذه الطريقة جديدة ومبتكرة، وأنه لا قداسة فى هذا المقام إلا للمحبة، القرآن فى قلب الشيخ، والفقيد فى قلب أهله، والمحبة فى القلوب جميعًا.

على الضفة الأخرى من النهر، قابل كثيرون من نشطاء مواقع التواصل الاجتماعى تصرف الشيخ وحضوره فى عزاء مواطن مسيحى حاملاً قرآنه فى قلبه وعلى لسانه، بقدر من الدهشة والاستغراب، بعد انتشار صورته متوسطًا صيوان العزاء عبر مواقع "السوشيال ميديا"، إلا أن الشيخ "نزيه" ردّ بما يفهمه من منطق وما يحمله قلبه من حجّة، مؤكّدًا أنه صديق لأسرة المتوفى، وأن أهله عامة، وشقيقه خاصة، أصدقاؤه منذ أكثر من 15 سنة.

وأكد الشيخ نزيه متولى، فى تصريح خاص لـ"اليوم السابع"، أنه صديق لشقيق المتوفى واسمه "الخواجة بيشوى"، الذى يمتلك محل فراشة فى شارع الورشة المتفرع من شارع شبرا، وكان يتعامل معه فى قراءة القرآن فى عزاء المسلمين، وتربطه بهم علاقة قوية مثلهم مثل باقى المسيحيين فى المنطقة، متابعًا: "كلنا إيد واحدة دايمًا فى كل شىء بالفرح والحزن".

 

نزيه متولى: أخو المتوفى مسك الميكرفون وقال الشيخ هيقرا لنا سورة مريم

وأضاف الشيخ "نزيه" متحدّثًا عن يوم العزاء، أنه كان ذاهبًا بشكل طبيعى لتقديم واجب العزاء ومواساة أهل المتوفى كما اعتاد، وجلس فى أول الصفوف، إلا أن أخا المتوفى طلب منه أن يقرأ "سورة مريم"، ثم أمسك الميكرفون قائلا: "إحنا فى بينّا وحدة وطنية، ومش حادثة إللى هتكسرنا، الشيخ نزيه هيقرا لنا سورة مريم".

يستكمل الشيخ نزيه متولى حديثه عن واقعة المحبة الخالصة التى شهد عليها حى شبرا، مؤكّدًا أن طلب شقيق المتوفى أثار استغرابه، ورفض فى البداية حتى لا يتسبب فى إحراج الحضور، ولكن صديقه أصر على طلبه، واصطحبه من يده إلى مكان القراءة، وبالفعل قرأت عدّة آيات من سورة "مريم" ثم ختمت، وقابل الحضور القراءة بترحيب كبير والتقطوا الصور معه بعد انتهائه من تلاوته.

ويؤكد "نزيه" فى تصريحه، أنه إذا طلب منه تكرار هذا الموقف مرة أخرى سيوافق بلا تردد هذه المرة، لافتًا أنه لن يبادر بعمل ذلك إلا إذ طُلب منه، وذلك احترامًا لرجال الدين المسيحى الذين يُكنّ لهم كل تقدير واحترام.

 

الشيخ نزيه: السيدة مريم محبوبة للجميع.. ودعاة التليفزيون يروجون للكراهية

وعن اختيار سورة "مريم"، قال الشيخ نزيه متولى: "السيدة مريم محبوبة لدينا جميعًا"، وعن الانتقادات التى تعرض لها بعد هذا الموقف، نفى تمامًا أن يكون قد واجه أى انتقاد من شيوخ المنطقة، مؤكدا أن الحال بين المسلمين والمسيحين فى أحسن حال ومستقر بشكل كبير، خاصة فى شبرا، ومتابعًا: "إحنا بنواسى بعض فى العزاء، ولما يكون فيه حد مثلا قافل محلّه أو ورشته نسأل عليه ونقف جنبه فى أزمته، عمر الكره ما كان ليه بينا مكان".

أما عن رأيه فى من يريد إحداث وقيعة وفتنة بين المسلمين والمسيحيين، خاصة بعد تفجير الكنيسة البطرسية يوم الأحد الماضى، قال الشيخ نزيه متولى، إن الدعاة المتشددين الذين يظهرون على شاشات التليفزيون هم من يروجون للكراهية، و"الإسلام دين سماحة، ورسولنا الكريم أوصانا بأصحاب الديانات الأخرى"، مطالبًا بانتقاء الدعاة الذين يخاطبون الناس ويعلمونهم دينهم، والاهتمام بأن تتوفر فيهم البلاغة وامتلاك العلم الكافى بأحكام القرآن الكريم، والأهم امتلاك المحبة.

 

من خطيب ثورة 19 للآن.. متى كنا نحن المصريين نخاف الموت

التأكيد الذى يحمله هذا الموقف، أن سر قوة مصر وعظمتها يكمن فى وحدة شعبها، فلا توجد دولة فى العالم يحتفل مسيحيوها ومسلموها بالأعياد والمناسبات الدينية المختلفة معًا، ويتبادولون التهانى بقلب مفتوح وود حقيقى، سوى فى مصر، ولا توجد دولة فى العالم تنتظر مدفع الإفطار عن بكرة أبيها سوى مصر، ولا توجد دولة فى العالم يشترى مسيحيوها "حلاوة المولد" إلا مصر، ولا توجد دولة إسلامية فى العالم يحتفل شعبها كاملا بأعياد رأس السنة إلا فى مصر، ولا توجد دولة فى العالم يحلف مسيحيوها بـ"النبى" كأحد الطباع المشتركة إلا مصر، وفى النهاية يحمل الموقف رسالة للأصدقاء قبل الأعداء، وهى أن مصر عصيّة على كل فتنة ووقيعة، والمصريون لا يخافون الموت، وكما قال القمص سرجيوس "خطيب ثورة 1919": "متى كنا نحن المصريين نخاف الموت؟".