اغلق القائمة

الأحد 2024-04-28

القاهره 10:34 م

أحمد الجمال

من دفتر ذكريات الفن.. «الأخيرة»

الثلاثاء، 02 سبتمبر 2014 11:05 م

لا أستطيع الإمساك باللفظ المناسب، وكلما اقتربت من تلقى ملامحه ذهنيا لأترجمها إلى حروف ينطقها لسانى تعثرت المحاولة، وهنا أدركت وأدرك وسأبقى مدركا، لأن الإعجاز الإلهى الجبار هو جعل الإنسان حيوانا ناطقا واعيا بأبعاد ما ينطق.. لأن من الطير ومن الدواب ما ينطق ولكنه لا يعى!
وما حاولت الإمساك به هو اللفظ الذى يختصر المعنى الذى يذهب إلى أن فى الإنسان غرائز تحركه فى كل الأحوال، ويمكن جعله مجرما قراريا لا حدود لإجرامه باستثارة الغريزة نفسها التى تجعله أراجوزا مضحكا يثير السخرية وأحيانا الشفقة، فمثلا يمكن استفزاز غريزة حب الظهور والتملك لاستثارة إنسان ما لكى يقتل من هيئ له أنه غريمه فى حب فتاة بعينها وأنه سبقه للفوز بقلبها وجسدها، أو استثارة إنسان آخر لكى ينهض من جلسته ويشد إيشاربا من حول خاصرته، ثم يبدأ فى عشرة بلدى فشر ولا تحية كاريوكا، ومن حوله يصفق له من استثاروه موهمين إياه أن عيون العذارى والثيبات معا كادت تنخلع وهى تتابعه وتصفق له على الواحدة ونص!
وفى كل الحالات التى يمكن أن نحكيها عن ليالى وجلسات سمرنا وضحكنا التى ضمت فنانين ومؤلفين ومفكرين وغيرهم، أكاد أجزم أن كل المفارقات والمقالب والمهاميز والشنكلات والمغارز والإفيهات اعتمدت على استثارة غرائز بعينها لدى أطراف الديالوج، وكلما برع طرف فى تعرية غريزة الطرف الآخر واستفزازها والضغط على مفاصلها، أى درجات تجليها واضحة بغير أى رتوش، كانت الاستجابة عالية ومضمونة الإضحاك!
هل وصل أحدكم إلى اللفظ الذى يجمل ويختصر ويدل على تلك الحالة؟!
المهم.. إلى أن نصل، فإننى سأحكى بعض تفاصيل جديدة من ذكرياتى مع أهل الفن والأدب، وفيها وهو متصل بالصفحة التى نشرت الثلاثاء الفائت، ما يفيد أن ما أذهب إليه أمر صحيح وحقيقى، لأننى أظن بل أعتقد أن ليلة الرهان على أن نتعشى على حساب الصديق الكبير والأديب والمسرحى الرائع ألفريد فرج رحمه الله، كان قوامها هو مدى القدرة على استفزاز غريزة التميز والإبداع وأيضا المكسب لدى الطرف الآخر أو فلنسمه «الضحية» تجاوزا.. لأننى ما إن فتحت موضوع مشروع اقتصادى ذى طابع ثقافى وفنى وفكرى محترم، والمطلوب أن فلانا، وهو فى حالتنا اللندنية والإماراتية كما سأحكى الأستاذان الكبيران ألفريد فرج وسعد أردش، حتى جاءت الاستجابة مباشرة وقوية!
وعن نفسى، فإننى لا أبرئها بحال من الأحوال من الوقوع فى الفخاخ نفسها، ولكن على صُعد أخرى، فربما عافانى قدرى من الاهتمام بالبحث عن مال أو جاه، ولكنه لم يعفنى من الاهتمام بالصدارة الفكرية، أو من «الدون جوانية» وحب التعامل مع الجنس الآخر تعاملا كثيرا ما أودى بالعبد لله! خاصة إذا أمسك أحد بجوهر العقدة وضغط عليه، فعندئذ قد تتلاشى المقاومة إلا إذا شاءت الظروف أن يأتى عامل تنبيه أقوى من
عنصر الاستثارة!
الشاهد أننا لم ننته من «تكاتيك» مشروع العم الكبير المسرحى الفذ ألفريد فرج رحمه الله ورحم زوجته ثريا، إلا ورزقنا بحالة أخرى لا تقل إثارة.
ففى الفترة نفسها مطلع الثمانينيات وفى استراحات استوديوهات عجمان، كانت الفرقة هى نفسها عدا تغيير بسيط هو وصول الفنان الكبير المخرج والممثل سعد أردش.. متوسط القامة فاتح البشرة رمادى الشعر واسع العينين من خلف نظارة بيضاء ذهبية «الشنبر أو الشمبر» لا أعرف، والحنجرة قوية حروفها واضحة المخارج والعميق منها عميق بجد!
وفى السهرة إياها بجناح الفنان صلاح السعدنى، أعلن المنادى وصول الأستاذ سعد أردش الذى انضم للجلسة وبدأت المناقشات البديعة حول فترة الستينيات ومسرح بريخت وغيره من القضايا الجادة الهامة الجافة، ثم كان الفرج بوصول حضرة الشيخ إبراهيم المطيرى، شيخ مشايخ قبائل بنى مطير فى الكويت وسواحل الخليج وبحر العرب! والعمق الصحراوى أيضا!
والذى جرى أنه أثناء سهرتنا وصل رجل متوسط العمر يميل إلى القصر ممتلئ إلى حد ما، يرتدى الدشداشة والغترة والعقال، ومن يعرفونه يعرفون أنه من عامة الناس وأنه عمل مع السعدنى الكبير محمود فى جريدة السياسة الكويتية.. مجرد موظف بسيط.. ولكن لأن الحبكة حبكت، فقد تم تقديمه للأستاذ الكبير سعد أردش على أنه سمو الشيخ إبراهيم ابن مطير المطيرى شيخ مشايخ القبائل إياها.. وأهلا.. وسلامات ثم أخذ أحدهم من المتآمرين طرف الخيط وسأل المطيرى: هيه يا شيخ إبراهيم عملت إيه فى المشروع بتاعك؟! وبلهجة خليجية مفرطة فى خليجيتها يعنى يتم تحويل الجيم إلى ياء.. والكاف إلى تاء وشين.. والقاف إلى غين، رد الشيخ بأن المشروع متعثر، لأنه لم يجد من يأتمنه عليه!
وبحكم التراتيبية فى الجلسة، وبالتالى فسعد أردش هو الكبير بادر الكبير بالسؤال لإشباع حب الاستطلاع: مشروع إيه إن شاء الله ما تقول لنا يمكن نقدر نساعدك؟! وبالنيابة عن عم الشيخ رد السعدنى: الشيخ إبراهيم غاوى ثقافة وغاوى فن، وكان عاوز يعمل شركة إنتاج كبرى تنتج مسلسلات وأفلاما، ويكون لها استوديوهات وأيضا قنوات تليفزيونية!
ولمعت عينا الأستاذ الكبير، وأجاب بسرعة: طيب وماله.. إيه المشكلة؟! ومال السعدنى على أردش وقال بصوت شبه مسموع: نؤجل الموضوع لبكره.. عشان القعدة مش مناسبة.. وفيه ناس مفروض ما يكونوش موجودين!.. وفى اليوم التالى كانت الجلسة الحاسمة، بعد أن عرف الأستاذ سعد أن الشيخ المطيرى لا يريد من الموضوع أكثر من شوية البنات اللاتى سيندفعن للبحث عن فرصة للنجومية، وأن المسألة لا ثقافة عنده ولا فن ولا دياولو، فإنها فرصة لإنشاء مشروع جبار وجاد لخدمة الفن الملتزم وإلى آخره.
وجلسة ثالثة.. وكان إبرام العقد بين الشيخ إبراهيم المطيرى طرف أول، وبين سعد عبد الرحمن قردش الشهير بسعد أردش مواليد بورسعيد سنة كذا طرف ثان، واتفق الطرفان.. ثم مجموعة بنود كلها التزامات على الطرف الأول الذى تقمص الدور ببراعة شديدة وصار يعلق بكلمة وحيدة واحدة: زين.. زين، ثم يؤكد بعبارة واحدة وحيدة: أهم شىء عندى الأخلاق وخاصة فى اختيار الحريم.. ما أريد منحرفات!!.. وكان أول تعليق من السعدنى خلاص يا سعد: إن شاء الله كل من تختارهن لازم يكن تقيات!
وبعد قليل وقبيل الفجر، وقف الأستاذ سعد رحمه الله فجأة، وقال: من فضلك يا شيخ إبراهيم تعال معى دقيقتين. وخرج الرجل معه ثم عادا بعد ساعة تقريبا، وجلسنا قليلا واستأذن الطرف الثانى ليرتاح، وبالطبع سارعنا بسؤال الطرف الأول عن مضمون الغياب لساعة، فأجاب وهو ينفجر من الضحك أبدا كتبنا ملحقا للعقد، وكان الملحق من بند واحد، هو إضافة تصدير الحاصلات الزراعية والبستانية كجزء من نشاط الشركة، لأن الأستاذ سعد قال للشيخ إبراهيم: سيبك من الأفندية اللى تحت دول، وتعال نوسع النشاط، لأن عندى أولاد قرايبى لهم مزارع وجناين.. واهو برضه زيادة الخير خيرين!
وفى الصباح المبكر امتطى المطيرى صهوة سيارته الشيفروليه الكابريس التى تبدو من الخارج لامعة طويلة عريضة أمريكانى قح، بينما هى هلكانة لا تساوى ثمن ملء خزانها وقودا، وغاب المطيرى، وبعد مضى يوم سأل الأستاذ سعد بصوته العميق المؤثر: أمال فين الشيخ إبراهيم؟.. وجاء الرد سريعا: سافر بعدما استدعته قبائل بنى مطير، لأن قبائل بنى عبس المتحالفة مع قبائل ذبيان أعلنوا الحرب عليهم، واستولوا على كل ممتلكات الشيخ إبراهيم الذى أصابه الهلع وخلع عقاله وغترته وأخذ يحثو الرمال على رأسه ويصرخ: الله يخرب بيتكم يا مصريين خلليتونى أغضب الله بالإنتاج الفنى!
عندها أدرك الأستاذ سعد عمق المغرز وفداحة المقلب.. ولم يعلق سوى بكلمة واحدة وحيدة: «إنتو شوية....» ولا مؤاخذة.