اغلق القائمة

الإثنين 2024-04-29

القاهره 11:45 ص

كيف حولنا الفتنة النائمة إلى فتنة دائمة؟

الإثنين، 16 مايو 2011 07:11 م

عشنا ومازلنا نعيش فى أجواء ما يسمى بفتنة أمبابة، أو فتنة عبير، ورغم أن هذه الفتنة لم تكن جديدة على المجتمع المصرى، لكن الأمر بدا أوضح من أى مشكلة عاشتها مصر من قبل، وذلك لما تتمتع به وسائل الإعلام الآن من شفافية فى الطرح وسرعة فى نقل المعلومات، فظهرت لنا هذه الكارثة كما لو أن المتخاصمين يرفعون شعارا هو "تعيش عبير وتغور مصر"، محاولين اكتساب شرعية زائفة على جثث القتلى ودماء الجرحى، بعد أن فاتهم قطار الثورة، وخذلتهم ألسنتهم وأفعالهم فى مهاجمتها ومحاولة وأدها، فتعجزوا على ما تبقى لديهم من حيل لتأكيد وجودهم وتثبيت أقدامهم.

لا تغرق نفس بالأسئلة والتخمينات لتعرف من المقصود بكلامى، فالحقيقة واضحة، لا يخفيها إلا مغرض، أو جاهل، والمتهمون يفاخرون بجرائمهم ويستعرضونها فى سجلات بطولاتهم، كلهم مجرمون وجناة، وحدها مصر هى المجنى عليها، لكنى أثق أن مصر أكبر، وأثق فى أن أعمالهم ستسلط عليهم، وأن كيدهم سيرتد إلى نحرهم، وهو ذاته إيمانى قبل الثورة بأن مصر ستفيق فى كابوسها، وتنفض عنها قاهريها، وهو ذاته الإيمان الذى استهزأ به البعض قبل الثورة، كما يستهزئون به الآن.

اعتبر ما سيأتى تفصيلا بعد إجمال، ودعنا نقول للأعور: أنت أعور، وللسارق: يا حرامى، وللمحرضين على الفتنة يا أعداء الوطن، وما جزاء معاداة الوطن إلا أن ينال فاعلوه أجر جاسوس وعقاب خائن، نعم أنا أمد الحبل على غاربه، فالوقت كما نعرف "سيف" وسيقطعنا إن لم نقطعه، والظروف التى نحيا فيها "عصيبة" كما يقول البعض، وحرجة كما يقول البعض الآخر، والدولة التى نريدها فتية وقوية وبهية، تترنح من ضرباتهم لكنها لا تسقط، ولن تسقط، وستخيب سعى المخربين.

هى فتنة كاملة الأوصاف، وأنا لست من أنصار وأد الفتنة بالتعتيم عليها ليظهر "كذبا" أن كل شىء على ما يرام، والفتنة الكبرى بين الإمام على ابن أبى طالب ومعاوية ابن أبى سفيان خير مثال، فبفضل أنصار مبدأ التعتيم وقعنا فى مغالطة تاريخية عظيمة لا أبالغ إذا قلت إننا مازلنا نعانى من آثارها إلى يومنا هذا، والغريب أن من تبعات هذه الفتنة أن سن السلاطين التابعين لمعاوية ما يشبه القوانين التى تحرم الخروج على الحاكم رغم أن حركة معاوية لم تكن إلا خروجا على الحاكم، وهو أيضا ما نعانى منه إلى اليوم، فلا ينفع الجرح أن نجعله يلتئم، قل أن نطهره وننقيه ونعقمه ونخرج ما به من تقيحات، وتاريخنا العربى والإسلامى يشهد أن التعتيم على الفتن وعدم فضحها وكشف دناءة مدبريها ومنفذيها يجعل منها أسطورة متوغلة فى الأذهان والعقول والوجدان، ما يهدد أم الأم وسلامتها لعقود وعقود، وإذا كنا ندعى أن مصر بعد الثورة يجب أن تتطهر من موبقات النظام السابق، فلا أقل من نفتح الجرح على أمل تطهيره، ولا أقل من أن "ننظف" ما بنا من مساوئ داخليا لنتفرغ للتحديات والصعاب التى تواجها خارجيا.

إذن فقد ثبت تاريخيا أن التعتيم على الفتن كفيل بأن يجعلها قانونا، وإن كان أسرع فى التظاهر بوأدها، لكن فى الحقيقة فإن إخفاء حقائق الفتن وأسبابها يحولها من فتنة نائمة إلى فتنة دائمة، ومن هنا فإن المكاشفة وعدم التزيد والمصارحة والسعى نحو العلاج الأمثل هو ما يجب أن تبذل الدولة فيه وسعها وتزلل الطريق إليه، ولنتخذ من هذه الفتنة الأخيرة مثالا حيا لما يجب أن يتم حيال هذه التقيحات المتفجرة، فبطلة قصة هذه القضية فتاة أقل ما توصف به أنها متوسطة الثقافة، لا أحد يعرف هل اعتنقت الإسلام كما يقال حبا فى الإسلام أم كرها فى زوجها المسيحى أم حبا لرفيقها المسلم، فمشكلة البنت بدأت فى التفاقم حينما حاول بعض السلفيين أن يفتشوا الكنيسة بحثا عنها، وكما هو واضح من تسجيل فيديو الشيخ المدعو بأشرف أبو أنس، وحسبما يقول هذا الشيخ وأجمع شهود العيان فإن طلقات الرصاص بدأت فى الانطلاق من أحد المبانى التابعة للكنيسة، أو من أحد الأقباط، فى حين أن هناك رواية أخرى تدعى أن البلطجية الذين كانوا بجوار الشيوخ هم أول من أطلق الرصاص، ثم جاء الاقتحام والقتل والإصابات والحرق وما تبعه من كوارث أخرى.

إذن المشكلة فى الأساس هى إسلام فتاة، ولا أرى أى حق للكنيسة فى أن تعترض على إسلام فتاة أو رجل كما لا يحق للأزهر أن يعترض على تحول أى مسلم إلى أية ديانة، فحرية الاعتقاد مكفولة للجميع، كما أقرتها الكتب المقدسة ومواثيق حقوق الإنسان، وهذا هو الأساس القانونى والإنسانى الذى لابد له من أن يعمم وأن يقنن بالشكل الذى يجعل من يعترض على تحول أى شخص دينيا مجرما، ويقع تحت طائلة القانون، لكن لكى لا نحمل طرفا واحدا مسئولية ما حدث فالسلفيون أيضا مخطئون وما الشيخ المسمى بأشرف أبو أنس إلا واحدا يمثل تيارا كبيرا يرى نفسه خصما وحكما وشرطيا ومخولا بتغيير ما يراه غير صائب بيده لا بيد ولى الأمر، وتجلى هذا فى محاولة تفتيشه للكنيسة بدون إذن نيابة ودون إذن من القائمين على هذا المبنى متناسيا أن القانون كفل حرمة دور العبادة، وأن القرآن أمر المسلمين بألا يدخلوا بيوتا غير بيوتهم حتى يستأذنوا ويسلموا على أهلها، ولهذا فالسلفيون متورطون بشكل كبير فى إراقة دماء المصريين، من غير أن ينقص من تورط المسيحيين من شىء، فالطائفة الأولى مذنبة فى محاولة تفتيشها لما لا يملكون، والطائفة الثانية مذنبة لأنها حولت من المنشآت التى تملكها سجونا تحبس فيها الفتيات دون رغبة منهن، لمحاولة التأثر عليهن وإثنائهن عما شرعوا فيه، وترتب على هذا ما أفزعنا كلنا ونال من سمعتنا المبهرة التى لم نعد نمتلك غيرها.

لا تغضب فالحقيقة مرة، وإن كنت لا ترى إلا وجهة نظرك ولا تعترف بغيرها فهذا عيب أدعوك إلى التخلص منه، ابتغاء مرضاة الله والوطن، ودعنا نضع النقاط فوق الحروف وأذكرك بأننا اتفقنا فى البداية على أن نقول للأعور أنت أعور، والسارق يا حرامى، ولكى لا نتوهم أن مشكلة عبير وليدة اليوم أو أن حلها بهذه البساطة فلابد أن نعترف مسبقا بأن الفتنة التى اشتعلت كانت مجهزة من قبل، ولكن ليس على الطريقة الشائعة، وهى أن "فلول النظام" أو القوى الخارجية هم مدبريها ومحركها لأن الأمر يتعدى بكثير قصة أن "فالل" من الفلول وضعنا على رأسه قرنين واعتبرناه شيطانا رجيما ورجمناه، كما يتعدى فكرة أن أحد السلفيين المتطرفين حرض أو دبر أو أمر بحرق الكنائس، والحقيقة أن الفتنة كانت موجودة بالفعل ومستقرة وما ينقصها فقط هو أن يلقى أحدهم عليها بعود كبريت لتشتعل، وتحرقنا جميعا.

نعم النظام السابق هو المسئول عن هذه الفتنة، لكنه ليس فقط عن طريق هذا الذى يسمى بعادل لبيب، أو حتى بأشرف أبو أنس، والحقيقة أننى أخشى أن نكتفى بأن نوجه أصابع الاتهام لشخص أو حتى لعدة أشخاص ليكونوا كبش فداء للمشكلة، ونتناسى أنها مازالت قائمة وأننا معرضون فى أى وقت لتكرارها مرة ومرات، أما لماذا وجهت الاتهام للنظام السابق فهذا راجع إلى أمر غاية فى الخطورة وهى أن مبارك ومن كانوا معه كانوا يفضلون أن يتركوا مسائل الفتنة الطائفية بأيديهم هم لا بأيدى القانون، فمن ناحية كانوا يلوون ذراع الكنيسة بتهديدها طوال الوقت بترك السلفيين عليهم، ومن ناحية أخرى كانوا يتخذون مسائل الفتنة ذريعة لمحاربة الإسلاميين واعتقالهم، ليس اضطهادا لهم ولا رغبة فى القضاء عليهم، وإنما لكى يعطون لأنفسهم مبررا قويا لاستمرار حالة الطوارئ، وكانت الكنيسة مستمتعة بهذه اللعبة لأنها طرف أصيل فى المسألة ولأنها كانت تبرز دائما متحدثا رسميا باسم الأقباط، وذلك يعزز مكانتها عندهم ويعزز مكانتها فى الدولة، وكان مبارك يستسهل أن يطلب رقم تليفون البابا كلما أراد أن يتحدث إلى مسيحيى مصر، بينما كان البابا ولايزال مستمتعا بأنه راعى شعب الكنيسة، والمفوض من قبل الله والحكومة لحمايته والتحدث باسمه.

لم يكن غريبا ألا يمل النظام السابق من لعبة الكراسى الموسيقية التى كان يفضلها، لأنه كان الحاكم بأمرها والمتحكم فى زمامها، ولأنها كانت تعطيه فرصة لشحن رصيد الطغيان والاستمرار فى الحكم على ما يهوى، لكن العجيب والغريب هو عدم ملل اللاعبين، أو بالأصح الملعوب بهم، ولا أعرف كيف لم يدرك الإسلاميين والمسيحيين أن مبارك ونظامه كان يستخدمهم أسوأ استخدام، فمن ناحية كان يصور نفسه باعتباره حامى حمى الإسلام والمحافظ الشرس على المادة الثانية التى تضمن بقاء الهوية الإسلامية لمصر، ومن ناحية أخرى كان يضطهد الإسلاميين ويعذبهم ويعتقلهم بسبب وبدون، والأغرب من كل هذا أن أكثر الفئات التى كان مبارك يتلاعب بها هى تلك التى كانت "من إيده دى .. لإيده دى" بل أن أكثر من تضرروا فى عهد مبارك كانوا هم أكثر من يسانده فى تثبيت أركان طغيانه، فالكنيسة كانت "مستمتعة" بمنحة مبارك كل عام أو عامين بالتفضل عليها بالموافقة على إنشاء كنيسة أو بناء دار رعاية، مستغنين بذلك عن المطالبة بقانون موحد لدور العبادة يكفيهم شر تسول بناء كنيس، ولا يجب أن تنسينا أحداث الثورة وتداعياتها أن الكنيسة كانت صاحبة السبق فى رفع شعار "مبارك شعب مصر" مستخدمة بذلك الآية المقدسة الواردة فى الإنجيل لترسيخ حكم مبارك، كما لا يجب أن ننسى أن الكنيسة هى أول دار عبادة رفعت صورة جمال مبارك واحتفلت بها واستقبلته باعتباره حاكم مصر، مدعمة ذلك بخطاب مداهن يدغدغ أحلام الوريث المغدور، أما السلفيون فكانوا أكثر الناس حرصا على متابعة أمن الدولة والاتمار بأمرها، مدعمة ذلك بخطاب تحريم الخروج على الحاكم والجهاد بالدعاء، وكانت الأعلى صوتا والأكثر محافظة على منهج تحريم المظاهرات، كما كانت الجهتان: الكنيسة والسلفيون، هما الأكثر ارتباطا بجهاز أمن الدولة، والأكثر استجابة لتنفيذ مخططاته فى محاربة التيارات الدينية والفكرية الأخرى، وهذا ما يجعل علامات الاستفهام تزداد الآن خاصة أنه من العجيب أن هؤلاء سكتوا على الأمور الخارجة على القانون فى الوقت الذى كان فيه القانون ميتا، وخرقوا القانون فى الوقت الذى بعث فيه من مرقده.

فى الحقيقة أننى لم أرد بذكر هذه الأمور أن أقلب فى الدفاتر القديمة لهذه التيارات الدينية، لكننا الآن فى أمس الحاجة لأن نضع النقاط فوق الحروف، وإذا افترضنا أن هذه التصرفات التى اعتبرها "مخزية" كانت تحت ضغط، فما أحوجنا الآن لأن نرفض هذا الضغط، وأن نضغط نحن فى الطريق الصحيح، بأن نقنن حياتنا ونبحث عن الحلول القانونية لمشاكلنا المزمنة، لا أن ننتهج ما يبث الفرقة ويدعم التناحر ويشكك فى النوايا، ولا أعتقد أن المجتمع المصرى سيسمح بأن يرى مشهد حرق الكنيسة مرة أخرى، كما لا أعتقد أيضا أنه سيسمح بأن يتجمهر بعض الشباب الغاضب أمام السفارة الأمريكية مطالبا بالحماية، فكلا الأمرين "خيانة" كما أن حبس فتاة خيانة، وإطلاق النار من فوق أسطح البيوت التابعة لكنيسة خيانة، وترويع المسيحيين خيانة، والكل مدان، لا فرق بين من يربى لحيته ويطلق لهبا من فمه، وبين من يعلق صليبا على صدره مهددا ومتوعدا بحمل السلاح مرة وبالتدخل الخارجى مرة، ولا تظن أنى بتوزيع الاتهامات هذه أحاول أن أرمى "كرسى فى الكلوب" وأن أقلب الترابيرة على الجميع، وما يجب هو ألا نعمم الأحكام فليس كل السلفيين إرهابيين، برغم خطابهم المعادى والمتشدد، وليس كل المسيحيين مذنبين، برغم حالة العداء المبالغ فيها لكل ما هو إسلامى، وفى مصر الجديدة التى نحاول أن نبنيها على هوى أبنائها لا يجب أن نخبئ رؤوسنا فى الرمال، فالمشكلات التى تسبب التناحر الطائفى معروفة ولا تحتاج إلا إلى تفعيل بعض مواد القانون التى كان مبارك يعطلها، وإنشاء القوانين المنظمة لحرية الاعتقاد وحرية بناء دور العبادة، والضرب بيد من حديد على الأفراد والجماعات التى تسول لها نفسها إنه من الممكن أن تعبث بهيبة الدولة وسيادة القانون، وأعتقد أننا فى أمس الحاجة الآن أن نتخلص من مبارك الذى فى داخلنا قبل أن نتخلص من مبارك الذى فى شرم الشيخ، ومن غير المقبول الآن أن نعتبر كل من هاجم تصرفا لجماعة تدعى إنها إسلامية "كافرا" كما لا يصح أن نعتبر كل من هاجم تصرفا مسيحيا عدوا للمدنية، مع الوضع فى الاعتبار أن مهاجمة الإسلاميين ليست فضيلة ليبرالية فى حد ذاتها، كما أن مهاجمة المسيحيين ليست سبة مدنية كما يعتقد البعض، ومن غير المعقول أن يظل أعداد الأقباط مجهولا كما لو كان سرا عسكريا، ومن غير المعقول أن تسكت الدولة على تكوين دويلات داخل الدولة، وهنا تبرز قيمة المصارحة ومن ثم المصالحة، خاصة أن الأحداث أثبتت أن لقاءات تقبيل اللحى لا تساهم بأى شكل فى وأد الصراعات والمشاحنات، وإنما ترسخها وتخلع عنها ثوبها المدنى وتلبسها الثوب الدينى، وهذا ما يجب أن يتوقف تماما.