اغلق القائمة

السبت 2024-04-27

القاهره 09:47 م

دية المرأة وذكورية الفقه الإسلامى

كتب إسلام بحيرى الجمعة، 30 يناير 2009 01:42 ص

◄السفهاء هم الذين استنبطوا أن آية الميراث تعنى إلحاق المرأة كنصف للرجل فى مماتها.. وبالتالى فإن ديتها نصف دية الرجل

لم ييأس الفقهاء القدامى من توالى تقديم عورات وسوءات آرائهم البغيضة، والتى لم نجن من ورائها إلا التشويه الكامل لنصوص الشرع، الظاهرة الصريحة، والتخريب الشامل لروحه الرحبة العادلة, وقد قلنا نصا فى مقالنا «تقديس الفقه»، والذى نشر فى «اليوم السابع» الإلكترونى، عن صنيع الفقه التراثى ما نصه: «فبَدءُ تكوُّن المذاهب الفقهية ،وإن اختلفت مرجعية أسبابه التاريخية، كان فى المجمل لوضع حلولٍ لنوازل مستجدة فى المجتمع الإسلامى حينها، حيث سعى ما اصطلح على تسميته الفقه، إلى محاولة ضبط الواقع الجديد بالشرع السابق عليه، ورغم وجاهة الفكرة تنظيرياً، إلا أن التطبيق كما أصاب حيناً، فقد جنح كثيرا عن الهدف الأكبر من نشوء فكرة المذاهب، فكما أهدى إلينا الفقهاء الأوائل مجموعة من التمارين العقلية، وطرق البحث والاستنباط والاستدلال، وتخريج الأحكام، أهدوا إلينا أيضا جنوحا فى التطبيق، وبُعدا عن استلهام روح وسمت هذا الدين السهل اليسير الخالى من التعقيدات، وكان لهذا الجنوح أكبر الأثر فى تشويه روح الشريعة، والابتعاد عن قيمها الكلية وقواعدها الكبرى».

وهذه هى الحقيقة المرة، فالفقهاء جنحوا بشدة عن ظواهر النص وروحه إلى أقوال ظالمة بغيضة, والأبغض أنهم عقدوا عليها الإجماع الذى يشهرونه كسلاح احترازى فى وجه المخالفين.

وتتمة واستتباعا لما فندناه فى المقالات السابقة، عن الفهم السقيم الذى ورثنا منه النصوص الشرعية الراقية، محملة بركام المفاهيم التراثية, نحاول استجلاء الطروحات التى اعتقد الغافلون أنها من أحكام المشرع الحكيم، حول القصاص فى الإسلام قتلا ودية.

فالقصاص فى الإسلام باب واسع، كانت مغازيه وأهدافه تفوق التطبيق الفعلى الجسمى، الذى اتسمت به اليهودية، آخذة به إلى نظرة راقية تؤسس للسلم الاجتماعى, وتحذر من حدوث جريمة القتل التى من غير المتصور حدوثها فى مجتمع راق، يدين بروح الشريعة العادلة, بل لم يشدد سبحانه فى آياته الحكيمة، قدر ما شدد فى جريمة القتل العمد فقال جل وعلا: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا» النساء 93, ثم عمم رب العزة الخطاب القرآنى، لكى لا يعتقد جاهل أن الروح المصونة هى الروح المؤمنة فقط, فقال رب العزة: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» الأنعام 151, ومن هنا بينت الشريعة للعاقلين فقط، أن النفس الإنسانية فى القصاص واحدة، مؤمنة أوكافرة مذكرة أو مؤنثة, وأن إزهاقها محرم على كل أحد، وفى كل وقت، إلا بالحق.

ولكن الفقهاء القدامى وأصحاب المذاهب، لا يتركون الفرصة تتخطاهم لإظهار مواهبهم السباقة والتواقة، لقتل روح العدالة الناضحة فى النص المنزل, ولبعث الروح الجاهلية من جديد, ولنقف فى البدء على النصوص الواضحة العادلة الحازمة فى القصاص والدية:
الآية الأولى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِى الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ» البقرة 178
الآية الثانية:
«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا» النساء 92
القصاص فى القتل العمد:
فرغم صراحة الآية الأولى الدالة على القصاص من القاتل، الذى أزهق النفس الإنسانية، ورغم أن ابن العربى نقل ما نصه: «يوجب قتل الرجل الحر بالمرأة الحرة مطلقا» أحكام القرآن (2/130), فلم تسلم الآية مع صراحتها من أفاعيل الفقهاء المعتادة، فقد حاد البعض منهم عن حزم وعدالة الشرع، فاختلفوا فيها اختلافا بيِّنا، فمنهم من قال لا يقتل الذمى-غير المسلم- بالمسلم، ومنهم من قال لا يقتل العبد بالحر, رغم أن الآية لم تفرق ولم تمايز بين إزهاق نفس وأخرى، استنادا إلى القاعدة القرآنية: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» الأنعام 151, ومتابعة لتلك المغالطات والممايزات بين النفوس المقتولة، حاد الفقهاء أيضا وجنحوا حتى قال بعضهم إن الرجل لا يقتل بالمرأة إن هو قتلها, استنادا لفهم عنصرى عام ومعلوم ومنقول أن الرجل بالكلية أفضل من المرأة-كما بينا فى مقالنا «ناقصات عقل ودين» - فقد نقل ابن أبى شيبة: «لا يقتل الرجل بالمرأة إذا قتلها عمدا» (5/410), بل نقل بعضهم أساس القول إلى أن قتل الرجل، يترتب عليه أضرار وفساد أعظم بكثير من قتل المرأة, وهذا قول مشابه بل مطابق لما كان يعتقده أهل الجاهلية فى مكانة الرجل فى القبيلة، ومكانة المرأة فما الفارق إذن الذى صنعه الإسلام بعدالة شريعته مع هؤلاء القوم, وقال آخرون بأن الرجل لا يقتل بالمرأة لأن الآية تقول: «وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى» وهو فهم سقيم كالعادة، فالآية لم يقصد فيها الشارع تحديد الاقتصاص من الأنثى بالأنثى، بل القصد ألا يتخطى القصاص القاتل حدا فالرجل بالرجل والأنثى بالأنثى, ولكن لو قتل رجل أنثى يُقتل بها والعكس صحيح، وهذا ما يفهمه العقلاء من الآية بلا منازع, ولكن هيهات منهم ألا يحتقروا المرأة فى أى فرصة تلوح، حتى لو كانت الآية القرآنية كعادتها ناضحة بالحق والعدل, والغريب أن الإجماع الذى استقر على الانصياع لظاهر الآية بقتل الرجل بالمرأة، إنما كان مع الاعتراف بأن الرجل والمرأة لا تتساوى ذاتاهما ونفساهما لا حياة ولا مماتا, ولكن لا مانع عند فقهاء الطبقية أن يقتل قصاصا غير المتكافئين ذاتا وشرفا وخلقة, فلا مانع أن يقتل الحر بالعبدا والشريف بالوضيعا والعاقل بالجاهل، كما أنه لا مانع قياسا على هذا أن يقتل الرجل بالمرأة، مع أنهما لا يتكافآن بزعمهم، ولا أعلم من أى دافع وباعث سيطرت هذه الروح العنصرية والطبقية على عقول الفقهاء القدامى، واستغرقت أحكامهم البغيضة, وقد قدمت الدكتورة «رقية طه العلوانى» تفصيلا رائعا وهاما فى تلك المسألة فى دراستها المنشورة فى مجلة «البحوث الفقهية المعاصرة» (أغسطس 2007م).

والمهم والغاية، أن الحكم العادل والمتفق مع الآية بقتل الرجل بالمرأة ،هو الذى استقر فى مآب الأمر عند الفقهاء وما كادوا يفعلون.
الدية فى القتل غير العمد:
أما عن حكم الدية - المال الواجب بالجناية على الجانى خطأ فى جريمة القتل الخطأ، فكما ذكرنا فى الآية الثانية هو حكم قرآنى رائق وواضح لا يحتمل لبسا: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ» النساء 92.

ولكن الفقهاء بإجماع بينهم قد عادوا أدراجهم واستعادوا طبيعتهم التواقة الرامية دوما إلى تقزيم وسحق المرأة, فرغم أن الآية لم تفرق بأى حال بين نفس وأخرى، ولم تفاضل بأى شكل بين ذكر وأنثى, إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل, ولو فندنا هذا الإجماع الفاسد، لوجدنا عجبا, فكيف خالف القوم بكل جرأة ظاهر النص القرآنى، فضلا عن روح العدالة والمساواة فيه, ولكنه بالتأكيد بناء على بناء، وفهم على فهم, فهذه الأدلة التى ادعوا بها إجماعا على أن المرأة نصف إنسان ،حتى فى الممات، هى أدلة مخجلة انبنت على فهم مخز، كما تجرى طبائع الأمور عند الفقه التراثى.

الدليل الأول:
يستدل هؤلاء فى إجماعهم بانتصاف حق المرأة فى القرآن الكريم:
«يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» النساء 11
«وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى» آل عمران 36
«الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» النساء 34
وبالطبع لا عجب ولا غرابة فى فهم سقيم معتاد لهذه الآيات، وجعلها عنوة تنسحب وتتخطى للقياس على مسألة مخالفة لها شرعا وعقلا.
فالآية الأولى «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِى أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ»، لا يفهم منها على الإطلاق أن انتصاف حق المرأة فى الإرث ،ينسحب ليجعل لها نصف حق فى الدية ،فما الرابط الشرعى أو العقلى بين الأمرين مع الوضع فى الاعتبار صراحة، الآية الدالة على وجوب الدية كاملة فى النفس المزهوقة خطأ، بلا تفرقة جنسية أو عرقية, بل الحق أن نصوص المواريث كانت تعديلا لوضع ظالم سبق العهد النبوى, كما أنه من المعلوم بداهة أن هناك حالات كثيرة، ترث فيها المرأة نصيبا أكبر من الرجل, ولذا فإن ماهية العلاقة بين آية الميراث وبين الدية، ماهية غامضة تقعر فيها الفقهاء فى خلط فادح، وربط بين أمرين لا رابط بينهما من الشرع أو العقل, إذ إن آية الميراث تنصرف ولا شك لحكم يصيب الرجل والمرأة حال حياتهم, أما الدية فتنصرف لورثة النفس التى أزهقت خطأ, فما علاقة إنهاء حياة نفس رجلا كانت أو امرأة بآية الميراث, ولكن السفهاء فقط هم الذين يخلطون الطين بالعجين وليستنبطوا أن آية الميراث تعنى أن المرأة نصف رجل, ولحوقا بذلك تظل المرأة نصف رجل، فهى نصف رجل حتى فى مماتها, وهذا السفه هو ما حدا بالفقهاء زورا أن يقولوا، إن دية المرأة على النصف من دية الرجل، مخالفين صريح الآية القرآنية.

أما الآية الثانية «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى»، فهى حالة مكررة من الخلط والزور لاستنطاق الشرع بما لم يأذن به مُنزله, فالآية لا علاقة لها بأن يكون الذكر مفضلا على الأنثى, حيث جاءت الآية فى سياق مخالف لهذا الاستدلال الفاسد, فسياق الآية كان دعاء ونذرا من امرأة عمران أن تحرر ما فى بطنها للخدمة فى المعبد، فلما وضعت أنثى قالت كذلك كما أورد رب العزة فى قولها: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى»، بمعنى أنه ليس الذكر كالأنثى فى ذلك الشأن فقط, ولقد عد بعض اللغويين هذا البناء اللغوى بأنه تفضيل للأنثى على الذكر وليس العكس, وهو وارد فى لغة العرب, وفى الحالتين لا تتوجه الآية بأى حال لتفضيل جنس كامل على الجنس الآخر لا فى الحياة ولا فى الممات، كما استدل أصحاب العقول الخفيفة.

وكذلك الحال فى الآية الثالثة «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ» فآية القوامة -ورغم احتياجها لمقال منفرد- فهى أحد أضلاع المربع التى ذكرنا فى مقالنا-ناقصات عقل ودين- والتى بنى عليها شواهق من الأحكام الظالمة, ولن اتعرض هنا لمعنى القوامة المقصود، بل سنطاوع الفهم السائد مؤقتا ونقول بإنها تعنى القوامة التى نسبوها للآية، فما علاقة تلك القوامة -بفرض ثبوت معناها الشائع- بأن تنتصف دية المرأة من الرجل, فكيف سول الفقهاء لأنفسهم هذا التدليس البيِّن فلو قلنا مجازا وترخصا، إن الرجل قوّام على المرأة فما علاقة ذلك بكونها نصف إنسان، إذا أُزهقت نفسها خطأ, ولأن الخلط البغيض واضح تنطق به الحقيقة، فلن نتوقف كثيرا عند صنيعهم المعتاد.
فهذه هى الآيات التى ادعى الفقهاء بها إجماعا فاسدا على انتصاف دية المرأة مقارنة بالرجل.

الدليل الثانى:
يستدل الفقهاء بحديثين وردا فى بعض السنن، ففى »السنن الكبرى« للبيهقى فى باب «ما جاء فى دية المرأة»:
الحديث الأول: «دية المرأة على النصف من دية الرجل» (8/168).
الحديث الثانى: «عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها» (8/168).
وهذان الحديثان لا يحتاجان كثير بحث، ولا تعقبا، فهما ضعيفان لا يصح منهما شئ, فالحديث الأول فيه «بكر بن خنيس الكوفى» وهو ضعيف بالاتفاق، وقال عنه ابن معين: «بكر بن خنيس لا شىء «الرازى «الجرح والتعديل» (1/384), أما الحديث الثانى ففيه «ابن جريج» وهو مدلس شهير إذا «عنعن» جاء فيه عن مالك بن أنس: «كان ابن جريج حاطب ليل» تاريخ بغداد (10/404).
وقد ضعف الحديثين ثلة من العلماء المعاصرين مثل الشيخ «أبوزهرة» والدكتور القرضاوى فى كتابه حول ذات الشأن.

إذن:
فقد استقر الإجماع البغيض على انتصاف دية المرأة دونا عن دية الرجل، بلا سند من النصوص يدعمه, بل على نقيض ظاهر ومفهوم الآية القرآنية الصريحة, فقد قال الشافعى: «لم أعلم مخالفاً من أهل العلم فى أن دية المرأة نصف دية الرجل» الأم (6/106), وقال ابن المنذر: «أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل» (2/116).
ولكن هذا الإجماع خلا من دليل قرآنى صريح، أو دليل نبوى صحيح.

لذا فقد اعتمدوا فيه على بعض الآثار التى لا تصح مطلقا نسبتها للصحابة، كما أنها لا تقوى على مواجهة النص القرآنى الواضح الخالى من الاستثناءات أو الممايزة, فلم يتبق لهم إلا القياس الفاسد كما سنوضح مقالتهم:
يقول القرطبى: «وأجمع العلماء على أن دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ قال أبو عمر: إنما صارت ديتها على النصف من دية الرجل من أجل أن لها نصف ميراث الرجل، وشهادة امرأتين بشهادة رجل» (5/325), وعلى هذا الفهم المغلوط والقياس على ما لا يصح فى آية الميراث وآية الشهادة كما بينا، مضى هذا الإجماع السقيم ليتخطى كل النصوص القرآنية الظاهرة, ويفرق ويميز بين النفس الإنسانية الذكر، والنفس الإنسانية الأنثى، فى عنصرية بغيضة تبتعد عن روح وعدالة الشرع الحنيف.

أما قياسهم الثانى فكان يزهو بروح الجاهلية التى عادت للظهور من خلال آرائهم فيقول «ابن القيم»: «وأما الدية فلما كانت المرأة أنقص من الرجل، والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات، وحفظ الثغور، والجهاد، وعمارة الأرض، وعمل الصنائع التى لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين، لم تكن قيمتهما مع ذلك متساوية وهى الدية فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما» إعلام الموقعين (2/188).
وهذا ليس قياسا فاسدا فحسب، بل هو قياس أحمق جاهل وجاهلى ،فالرجل يزعم أن انتصاف دية المرأة إنما لأن منفعتها أقل من الرجل فى شتى مناحى الحياة, ففقد وإزهاق نفس أنثوية فى الحياة أقل مصيبة وأدنى ضررا من فقد نفس ذكورية، حيث كل الأعمال فى الدين والدنيا تتم بالرجل, وما يقوله ابن القيم كما تنطق كلماته لا يختلف كثيرا عما كان يقوله أهل الجاهلية عند استقبال مولودة أنثى، فقد كانوا يحزنون كثيرا حيث لا فائدة منها فى الحروب، ولا الإغارة، ولا الولد، ولا النسب الممتد، فكان الجاهلى يريح نفسه وعشيرته البائسة بدسها حية تحت التراب، وقد أقر القرآن بتلك القسوة الشيطانية فى قوله تعالى: «وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِى التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» النحل 59,58

ففيما اختلف تبرير «ابن القيم» وغيره الكثير من أقرانه فى انتصاف دية المرأة, عن تبرير الجاهلى فى وأد ابنته ودسها فى التراب وقد بُشِّر بمولود لا ينفع بل يضر؟ ولكن السؤال الحقيقى والهام، كيف استدارت عقول القوم هكذا وعادت أدراجها للجاهلية مرة أخرى, وكيف جانبت عقول هؤلاء الشريعة وفارقتها بالكلية نصا وروحا ومعنى، وكأن الإسلام لم يكن أحد أعظم أهدافه هو العدل والمساواة بين صنيعتى الله فى أرضه الرجال والنساء, فى الحق والشرع والعقل والحياة والممات, فهذا هو قياسهم البائس الغبى الذى يعارضون به صريح القرآن الكريم والغريب أن الرجل يؤكد فى آخر السطور على «حكمة الشارع فى انتصاف الدية», ولا أعلم أى شارع أو مشرع يتكلم عنه «ابن القيم»، فمن أين أتى، إن هذا الانتصاف كان من المشرع فلا قرآن ولا سنة ولا أثر يؤيد كلامه إلا أن القوم قاسوا بعقولهم، ثم تماهوا مع الشرع واعتبروا عقولهم تقوم مقامه، ولطالما فعلوا كذلك, وهذه مفسدة كبيرة وتقوُّل على شرع الله بالعرف والهوى والعادة.

ورغم كل ما سبق من بيان عوار، وتهرئ هذا الإجماع المزعوم إلا أن هذا الإجماع المتوهم لم يسلم لهم كما زعموا فمن علماء السلف من قال بأن الدية متكافئة بين الرجل والمرأة، لأن الآية لا تدل على خلاف ذلك وكذلك قال المصلحون من العلماء المحدثين من المعاصرين فى القرن الفائت, فالذى قال بالمساواة فى الدية من السلف: «ابن علية - أبوبكر الأصم -ابن حزم الأندلسى», ومن المحدثين: «الإمام محمد عبده - الشيخ رشيد رضا - الشيخ محمد أبوزهرة - الشيخ محمود شلتوت - الشيخ الغزالى - الشيخ القرضاوى».

وأخيرا:
فإن ما تحمله ثنايا الكتب فى ذات السياق، يوضح أن الغلو والتعصب نحو المرأة قد أصاب شطرا كبيرا من هؤلاء القوم, وكان ذلك الغلو، ذا أثر بليغ فى تكوين ملامح مناهجهم ومذاهبهم, من خلال إلباس آرائهم السخيفة والمرذولة لباس الشرع, ومن خلال هذا التماهى والاندماج والذوبان بين الشريعة الإلهية والفقه البشرى امتلأت أرداف الكتب الفقهية بالأحكام الغثة البعيدة عن نص المشرع الحكيم.

فها هو الحكم الذى جرى قرونا مجرى الحكم الشرعى من انتصاف دية المرأة مقابل الرجل، إنما هو إجماع تائه لا يتساند لقرآن ولا سنة وعمل, بل إنه يصادم النص القرآنى ويقيس بين الأحكام بلا علة مشتركة, ويؤسس فى تبريره كما نقلنا عن «ابن القيم»، لأسس الجاهلية الجديدة التى تخضع القصاص والدية للمنفعة والحاجة والممايزة الكاذبة بين الرجل والمرأة, ما يتوجب معه أن يوضع هذا الإجماع تحت أقدامنا, فكفى تجرعا للحنظل من هذا الفقه المتعصب والمباعد لروح النص وعدالته، وكفى تقديسا لدين الفقه الذى وارى وأخفى من وراء ركامه وحواشيه دين الشريعة, الشريعة التى ما زلنا لم نفهم أنها تعنينا وتخصنا وتقصدنا وأننا نملك الحق الكامل فى التعامل الحر والمباشر معها بعيدا عن أراجيف التراث.