حاتم حافظ

أثر طه حسين

الجمعة، 10 مايو 2024 04:32 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

تمرد طه حسين مرات، أولها حين قرر ألا يكون عطب بصره عقبة أمام تعلمه، ومرة بعدما التحق بالدراسة الأزهرية، ومرة بعدما صار طالبا في الجامعة المصرية، وفي المرة الأولى لم يستسلم لما كانت تفرضه الظروف على من هم مثله، الذين ما كان لهم أن يحلموا بأكثر من العمل في زاوية كشيخ لتحفيظ القرآن أو – إذا ما حالفهم الحظ – أن يصبحوا أئمة في مساجد ريفية بقُراهم. والمرة الثانية حين فتنته دروس الشيخ المراغي في الأدب أكثر من دروس الفقه والتفسير، فاختلف مع مشايخه الذين فرضوا فقها محددا على تلاميذهم فيما انفتح وعيه على الدين على اتساع فضاءاته بعد أن قام الإمام محمد عبده بدوره المهم في الأزهر، وقرر بعدها التقدم للجامعة المصرية التي فتحت أبوابها حديثا. والمرة الثالثة كتب نقدا لاذعا موجها لمناهج الجامعة التي أوفدته للدراسة في باريس فلم يقنع بطرق التدريس التي بدت لعينِه عتيقة أكثر من اللازم، ولم يهتم إذا ما غضبت عليه الجامعة فسحبت منه المنحة.

هذه السلسلة من التمردات ربما تكون مفتاحا لفهم شخصية طه حسين كشخص غير قابل للترويض، صريح حد الصدام، واضح في خصومته، ولا يهادن في معاركه. هو الذي غضب على حزب الوفد حين تخلى سعد زغلول عنه بعدما نشبت معركة كتاب الشعر الجاهلي فانضم لخصوم سعد زغلول في حزب الأحرار الدستوريين. هذه الشخصية المتمردة فرضت عليه الدخول في معارك عديدة بداية من معركته ضد الجمود في الأزهر ومهاجمة المؤسسة الأكبر في العالم الإسلامي في الصحف، ثم هجومه على الجامعة المصرية وطرق التدريس التي تميل للتلقين أكثر من إعمال العقل، ثم معركته مع الشيخ جاويش فيما عُرف بقضية السفور وقتها حيث ناصر تحرير المرأة ودعم زعيماته الشابات ومنهن ملك حفني ناصف، ثم معركته الأشهر حين قدم الأصوليون بلاغا ضده بسبب كتاب الشعر الجاهلي فلم يتراجع عما كتبه في التحقيق الذي انتهى بتبرئته بفضل وكيل النائب العام المستنير المستشار محمد نور.


التمرد الذي شكّل شخصية طه حسين منذ طفولته ربما كان الأثر الأهم الذي تركه طه حسين أكثر مما تركه في كتبه وأبحاثه وأدبه. فالمثقف الحقيقي يجب أن يمتاز بخصيصتين أولهما الاتصال بعالمه ومجتمعه وقضاياه وثانيهما الحفاظ على مسافة نقدية مما استقر في وعي الناس. في كتابه الشعر الجاهلي قد نلحظ كثير من النتائج غير الدقيقة، وبعض التناقضات، وربما نكتشف أن استنتاجاته جانب بعضها الصواب، لكن كل هذا لا يهم، فالأهم هو المنهج الذي اتبعه في دراسته، وهو منهج يستبعد أية أفكار مسبقة عن موضوعه، ويحيد مشاعره وإيمانه كباحث، لأن غاية البحث – كما هي غاية الثقافة والتثقف – هو الحقيقة، سواء جاءت الحقيقة متوافقة مع الشائع من معرفة أو خالفته. فيما اختار طه حسين موضوع بحثه بالأساس لاشتباكه مع الجمود الفكري والديني الذي غلب على الخواص والعوام على السواء.


الأثر الأكبر لطه حسين إذن في التزامه بما يعتقد في صحته، حتى ولو خالف ما يعتقده كل اعتقاد شائع وكل رأي مستقر. وهو ما فرض عليه اقتحام معارك أكثر مما نتخيلها كمعركته ضد أصوليي مجمع اللغة العربية حين تقدم بمشروع لاختصار النحو العربي، واختصار علاماته، وهو ما قوبل برفض عنيف، واتهامات أشد عنفا. أنصار الجمود في المجمع اللغوي اعتبروا اقتراح طه حسين – والذي ناصره اللغوي الكبير زكي المهندس بالمناسبة – اعتداء على اللغة فيما استهدف طه حسين تطوير اللغة لتجاري الواقع الجديد حرصا على بقاء اللغة العربية كلغة حية فيما أدى تمسك الأصوليون بجمود اللغة إلى انحسارها كلغة للكتابة فقط، وحتى في هذه المساحة قد باتت مهددة. وقد يكون تردي علاقة المصريين باللغة العربية الآن نتيجة لانتصار هؤلاء الذين ظنوا أنهم يدافعون عنها. كما قد يكون تفشي العصبية الدينية والتطرف بين المصريين في العقود الأخيرة أيضا نتيجة لموقف رجال الدين وعلماء الأزهر وقتها من التجديد الذي دعا إليه طه حسين، فجنوا على الدين واللغة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.


الأثر الأكبر لطه حسين في بقائه كعلامة على أن التمرد عل كل مستقر هو ضمانة المستقبل، وعلى أن المحافظين في كل مجال يمكنهم إفساد ما يظنون أنهم حراسه وسدنته.
 










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة