سالم الكتبى

بناء الأوطان وقصة فنزويلا

الخميس، 31 يناير 2019 08:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كثيراً ما يجادل البعض بأن الموارد والامكانيات المادية هي الأساس في بناء الدول وتقدمها وتطورها ونهضتها، ويرجعون الفشل إلى غياب الموارد وشحها، ولكن الحقيقة أن هذه مقولة خاطئة تماماً، فالإمكانيات المادية للدول، مهما عظمت وكبرت، لا تفلح في بناء الدول وتحقيق أمنها واستقرارها ورفاه شعبها ما لم تسبقها رؤية استراتيجية واعية لتوظيف هذه الموارد والامكانيات.

تذكرت هذا الجدل وأنا اتابع تطورات الأوضاع في ازمة فنزويلا، هذا البلد النفطي الذي يتربع على احتياطي نفطي هو الأضخم عالمياً، ويفوق المملكة العربية السعودية الشقيقة في حجم الاحتياطي النفطي برغم كل ما يعرف عن المملكة من ثراء وتقدم وتطور اقتصادي وتنموي، وهذه "الحالة الفنزويلية" تقدم نموذجاً واضحاً لعواقب غياب الرؤية الاستراتيجية في توظيف الموارد الطبيعية لمصلحة الشعوب.

لم تهدأ فنزويلا منذ عام 2014 حتى الآن، أي منذ تولي الرئيس مادورو السلطة خلفاً للرئيس السابق هوجو تشافيز، بسبب الأوضاع الاقتصادية المتدهورة، حيث خرج التضخم عن السيطرة وأصبح النقص في الغذاء والدواء وانقطاع الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء مسألة عادية في حياة الملايين الذين اختاروا البقاء، بعد خروج الملايين من الشعب الفنزويلي ورحيلهم إلى دول الجوار للعيش كلاجئين!

 في خضم هذه الأزمة وذروتها أعلن زعيم المعارض خوان غزايدو نفسه رئيساً مؤقتاً للبلاد، وتلقى الدعم من دول كبرى منها الولايات المتحدة وكندا وجيران أقوياء مثل البرازيل وكولومبيا والأرجنتين، فيما دعا الاتحاد الأوروبي إلى إجراء انتخابات جديدة معربا عن دعمه للجمعية الوطنية التي يرأسها غوايدو، وعلى الجانب الآخر دعمت روسيا والصين الرئيس مادورو، وانقسمت البلاد قسمين في سيناريو لم تعرف بعد نهايته!

وفي تفسير ذلك تروج نظرية المؤامرة، حيث اعتبر بعض المحللين أن هناك مخطط يتم تنفيذه لإقصاء مادورو، وسواء صح ذلك أم كانت رواية ملفقة، فإن الواقع يوفر درساً مهماً مفاده أن سوء الإدارة وفشل السياسات التنموية وغياب الشفافية والرؤية كان السبب الحقيقي فيما حدث بغض النظر عما إذا كان هناك تدخل خارجي مخطط ام لا.

كل دولة من الدولة التي دعمت نظام مادورو لها أسبابها التي تراوح بين موقف ثابت حيال فكرة التدخل الخارجي مثل الصين، وبعضها الآخر يبحث عن موطئ قدم في نصف الكرة الغربي مثل روسيا، فيما تروق فكرة مناكفة إدارة الرئيس ترامب للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ويبقى نظام الملالي في إيران داعماً لمادرور بالنظر لوجه الشبه الكثيرة بين النظامين، سواء على صعيد هدر الموارد وغياب التنمية والتمسك بالشعارات الرنانة، أو على صعيد الخوف من تدخل أمريكي مشابه في إيران

فنزويلا من بين الدول التي تمتلك مخزون نفطي هو الأضخم عالمياً كما ذكرت، فضلاً عن كميات كبيرة من الفحم والحديد والذهب، ولكن غالبية الشعب يعيش في فقر مدقع، ويقطن الملايين بيوت من صفيح، وهو حال أقرب للحالة الإيرانية، سواء من حيث الموارد أو من حيث واقع التنمية البائس في البلاد!

النظام الإيراني يعيش نفس الأزمة، حيث يوجه موارد البلاد النفطية إلى دعم الميلشيات الطائفية في دول عدة، كما يخصص موارد ضخمة للمشروعات العسكرية التي تستهدف حماية النظام في وقت تتجه فيه الأحوال الاقتصادية لاستنساخ النموذج الفنزويلي في الارتفاع القياسي للتضخم وانهيار قيمة العملة الوطنية!

لا يكف مادرور عن رفع الشعارات الوطنية في وقت يشاهد فيه هروب الملايين من أبناء شعبه يتسابقون للهروب إلى كولومبيا وغيرها من دول الجوار، حيث تشير التقارير الرسمية في فنزويلا إلى تضاعف الأسعار كل 26 يوماً، حتى أن سعر فنجان القهوة الآن قد بلغ سعر شراء منزل قبل 15 عاماً!

السبب الرئيس في ذلك هو غياب التخطيط والسياسة التنموية، ففنزويلا تعتمد على مصدر وحيد للدخل هو النفط، ما يعني ربط التنمية بأسعار هذا المورد الاستراتيجي، وبالتالي أدى تراجع أسعار النفط في السنوات الأخيرة إلى انهيار موارد البلاد المالية واستنزاف احتياطي العملة الأجنبية ومن ثم صعود الأسعار لمستويات قياسية بفعل ارتفاع التضخم بشكل يصعب قياسه! ولم تفلح علاجات الحكومة الفنزويلية رغم التخلص من خمسة أصفار من العملة الوطنية، وتوقع صندوق النقد الدولي وصول معدل التضخم إلى 10 مليون في المئة بحلول نهاية عام 2019!تشير إحصاءات منظمة الهجرة الدولية إلى ان نحو 3 ملايين من الفنزويليين قد فروا إلى دول عدة منها كولومبيا والولايات المتحدة وتشيلي وكندا واسبانيا والبرازيل والإكوادور وبنما والأرجنتين وإيطاليا والبرتغال وترينداد وتوباغو، أي أن شظايا الفشل الفنزويلي في الحكم قد أصابت دول كثيرة بعضها يعاني أزمات اقتصادية حادة ولا يستطيع استقبال لاجئين وهاربين من الأزمات مثل الأرجنتين والبرازيل وغيرهما.

لنتخيل ان دولة تمتلك أضخم احتياطي نفطي في العالم يبلغ الحد الأدنى للأجور فيها نحو 4500 بوليفار أي ما يعادل 6 دولارات فقط، حتى أن وكالة "رويترز" الشهيرة قد نشرت تقريراً مصوراً لتوضيح مدى تأثير التضخم الهائل على البلاد من خلال ابتكار صور توضح قيمة الطعام مقارنة بكم الأموال الكبير التي تساويها!

هذه الحالة المرعبة تنموياً تؤكد لكل ذي بصيرة القيمة والمكانة المتفردة  للقادة من أصحاب الرؤى الاستراتيجية الواعية، الذين خططوا لبناء بلادهم حتى قبل امتلاك ثروات نفطية وموارد طبيعية، وفي مقدمة هؤلاء يجب أن نشير إلى المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس دولة الامارات، الذي كان يخطط لبناء دولة حديثة قبل استخراج النفط وتصديره، حتى أنه قال، طيب الله ثراه، في أحد أحاديثه الصحفية "حتى قبل هذا اليوم (اكتشاف النفط وتصديره) كنت اخطط لإنشاء طرق ادرجة أن بعض الناس كانوا يضحكون على ذلك"، فقد كان مخططاً استراتيجياً بالفطرة، ينظر للمستقبل ويدرك متطلباته، واضعاً تنمية الانسان في صدارة أولوياته حيث كان يقول "إن هدفنا الذي نعمل من أجله هو رفع مستوى الانسان، إن ثروة البترول مثل أي ثروة معرضة للزوال وإذا لم تستغل لمواجهة المستقبل فلا قيمة لها، يجب أن نستغل ثروة البترول لإيجاد مصادر أخرى للثروة تحل محل البترول عندما ينفذ أو ينضب، إننا نفكر كثيراً ونخطط فعلاً لمواجهة احتمالات نضوب البترول، نخطط وندرس ونجلس مع الخبراء ونبحث عن إيجاد البديل للثروة البترولية، يجب ان يكون هناك البديل المناسب".". رحم الله القائد المؤسس، الذي كان يمتلك هذا الفكر الاستراتيجي الذي سبق عصره، والذي تؤكد لنا تجارب الدول من حولنا الآن، قدر عظمته وقيمته، فمن يتحدث عن تنوع مصادر الدخل والبدائل قبل طرح مثل هذه الأفكار في عالم الاقتصاد الحديث يستحق أرفع مكانة للقادة العظام.

الدول لا تبنى بالشعارات، ولا حتى بحجم الموارد والامكانيات المادية، بل بالإرادة والايمان بالإنسان والاستثمار في بنائه.










مشاركة



الرجوع الى أعلى الصفحة